كاملا غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه ، ووفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك ، ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله : (لَكُمْ). قال الجمهور : المراد بالإكمال هنا : نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما. والمراد باليوم المذكور هنا هو يوم الجمعة ، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب ؛ وقيل : إنها نزلت في يوم الحجّ الأكبر. قوله : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بإكمال الدين المشتمل على الأحكام وبفتح مكة وقهر الكفار وإياسهم عن الظهور عليكم كما وعدتكم بقولي : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) (١). قوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي أخبرتكم برضاي به لكم فإنه سبحانه لم يزل راضيا لأمة نبيه صلىاللهعليهوسلم بالإسلام فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره ، ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا إلى انقضاء أيام الدنيا. ودينا منتصب على التمييز ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا. قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) هذا متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض : أي من دعته الضرورة (فِي مَخْمَصَةٍ) أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرّمات. والخمص : ضمور البطن ، ورجل خميص وخمصان ، وامرأة خميصة وخمصانة ، ومنه أخمص القدم ، ويستعمل كثيرا في الجوع ، قال الأعشى :
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم |
|
وجاراتكم غرثى (٢) يبتن خمائصا |
قوله : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) الجنف : الميل ، والإثم : الحرام ؛ أي حال كون المضطرّ في مخمصة غير مائل لإثم ، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد ، وكل مائل فهو متجانف وجنف. وقرأ النخعي ويحيى بن وثّاب والسّلمي «متجنف» ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرّم عليه إلى الإثم ؛ بأن يكون باغيا على غيره أو متعدّيا لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدّم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، والحاكم وصحّحه ، عن أبي أمامة قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شعائر الإسلام ، فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها ، قالوا : هلمّ يا صدي فكل قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم لما أنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك؟ قال : فتلوت عليهم هذا الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) قال : وما أهلّ للطواغيت به (وَالْمُنْخَنِقَةُ) قال : التي تخنق فتموت (وَالْمَوْقُوذَةُ) قال : التي تضرب بالخشبة فتموت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) قال : التي تتردّى من الجبل فتموت (وَالنَّطِيحَةُ) قال : الشاة التي تنطح الشاة
__________________
(١). البقرة : ١٥٠.
(٢). غرثى : جوعى.