الممكنات لا بدّ لها من موجد قادر حكيم يوجد على ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، متعاليا عن معارضة غيره ، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه ، فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا.
فإن اختلفا بأن أراد أحدهما إيجاد العالم والآخر إعدامه ، فإما أن ينفذ مرادهما ، فيلزم عليه وجود العالم وعدم وجوده ، وهو جمع بين النقيضين ، وهو محال ، وإما ألا ينفذ مرادهما ، فيلزم عجزهما وعدم وجود العالم ، وهو باطل بالمشاهدة ، وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر ، فيكون الآخر عاجزا فلا يكون إلها ، والأول غير إله لمماثلته للثانى فرضا ، وهذا يسمى برهان التمانع ، وإن اتفقا فلا جائز أن يوجداه معا بالاستقلال فى آن واحد لما يلزم عليه من اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، وهو باطل ، ولا جائز أن يوجداه مرتبا بأن يوجده أحدهما ثم يوجده الآخر بعده ، لما يلزم عليه من تحصيل الحاصل وهو باطل ، ولا جائز أن يوجداه على سبيل المعاونة لما يلزم عليه من عجز كل منهما فلا يوجد العالم.
ولا جائز أن يوجد أحدهما بعض العالم ، والآخر البعض الثانى ، للزوم عجزهما ؛ لأن كلا منهما عاجز عن التصرف فيما تصرف فيه الآخر ، وهذا يسمى برهان التوارد.
قال الله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون : ٩١]. وقال جل شأنه : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢]. وقال سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].
وبعد : هذا هو التوحيد ، أحد مطالب الإيمان الثلاثة التى أنكرها الماديون ، قد ثبت بما لا يقبل الشك على ما تقدم بيانه وإيضاحه ، وبقى الأمران الآخران : البعث والرسالة ، إلا أنه لا يفوتنا الآن أن نذكر أن إثبات التوحيد يستلزم المطلبين الآخرين ، وذلك أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة فى جميع الأجسام ، فكان الاعتراف بأنها كلها لله تعالى وتحت تصرفه وقدرته سبحانه ، كان ذلك لازما على كل عاقل لا سبيل إلى إنكاره.
والاعتراف بذلك يستلزم الاعتراف بوحدانيته سبحانه كما تقدم ، والاعتراف به يستلزم الاعتراف بصحة الإعادة ؛ لأن من قدر على الإبداء ، فهو أقدر على الإعادة ، كما سيأتى ، كذلك يستلزم الاعتراف بحقيقة الرسالة وبعثه الرسل ؛ لأن الصانع الحكيم