وكان الظاهر أن يقدم ما يأكله الإنسان ، إلا أن مرعى الحيوان يكون بنية الحيوان الذى هو غذاء حيوانى للإنسان ، وهو أشرف من الأغذية النباتية ، فبهذا الاعتبار يكون مرعى الحيوان أشرف مما يأكله الإنسان ، فلذلك قدم الأول على الثانى.
ثم إن الغذاء النباتى قسمان : حبوب ، وفاكهة ، فهو تعالى أشار إلى الحبوب بلفظ الزرع ، وإلى الفواكه بقول : (الزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) ، ولا شك أن الحبوب أشرف فى الغذائية من الفواكه ، وأشرف الفواكه من الزيتون والنخيل والأعناب ، فلذلك خص هذه الفواكه بالذكر ، وأشرف هذه الثلاث هو الزيتون ؛ لأنه فاكهة من وجه ، وإدام من وجه ؛ لكثرة ما فيه من الدهن ، ومنافع الأدهان كثيرة ، حيث تصلح للأكل ، والطلى ، واشتعال السرج ، وأشرف الباقين النخل ، فلذلك قدم الزيتون على النخل ، وقدم النخل على الأعناب ، وكان ختم الآية بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، تنبيها على أنه لا بدّ من مزيد التفكير فيما حوته الآية ، وما اشتملت عليه ، حتى يحصل المقصود تاما كاملا.
وذلك أن أحوال النبات ، وإن كانت دالة على وجود الله تعالى ، إلا أن دلالتها تحتاج إلى تأمل ، فإنه لما ذكر تعالى أنه أنزل من السماء ماء ، فأنبت به الزرع والزيتون ... إلخ ، قد يتوهم أن الاختلاف فى الفصول الأربعة ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب هى الموجدة لهذه الأشياء ، فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال ، لا يكون الاستدلال بأحوال النبات وافيا بإفادة المطلوب ، قاطعا للشكوك والريب ، وهذا الختم فى هذه الآية نظير ما ختمت به آية الرعد السابقة : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣] ، وقد بينا هناك ما فيه التفكير بالنسبة للحبة التى توضع فى الأرض ، فيخرج أعلاها فى الهواء شجرا يحمل زهورا ، وثمارا ، ويغوص أسفلها عروقا فى الأرض ، لا تحمل زهرا ولا ثمرا ، إلى غير ذلك مما بيناه.
ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل : ١٢] ، فالتسخير مراد به هنا أنه جل جلاله هيأ هذه الأشياء وجعلها على أحوال وصفات وأوضاع ، بحيث ينتفع بها الإنسان ، وتنظيم بها أحواله ، وكان قوله : (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) إعلاما بأن تأثير هذه الكونيات فى حوادث العالم السفلى ليس مستندا إلى الحركات الفلكية ، وإلا لاحتاجت تلك الحركات إلى أن تستند إلى حركات أخرى ، ولا شك أن الحركات