حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر ، وفي التأكيد بقوله : (جَمِيعاً) أقوى دلالة على هذا. وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين ، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض. وقال الرازي في تفسيره : إن لقائل أن يقول : إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعا للوصفين ، ولا شك أن المعادن داخلة في تلك ، وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه. انتهى. وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال : فإن قلت : هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. انتهى. وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه ، وهو أيضا ضارّ فليس مما ينتفع به أكلا ، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى ؛ وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل ، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه ، وجميعا منصوب على الحال. والاستواء في اللغة : الاعتدال والاستقامة ، قاله في الكشاف ، ويطلق على الارتفاع والعلوّ على الشيء ، قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) (١) وقال : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (٢) وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية. وقد قيل : إن هذه الآية من المشكلات. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها ، وخالفهم آخرون. والضمير في قوله : (فَسَوَّاهُنَ) مبهم يفسره ما بعده كقولهم : زيد رجلا ؛ وقيل : إنه راجع إلى السماء لأنها في معنى الجنس ، والمعنى : أنه عدل خلقهنّ فلا اعوجاج فيه. وقد استدل بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى) على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء. وكذلك الآية التي في حم السجدة. وقال في النازعات : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) (٣) فوصف خلقها ثم قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٤) فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وكذلك قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٥) وقد قيل : إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ودحوها متأخر. وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم ، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه ، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو ، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء ، وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع. وقوله : (سَبْعَ سَماواتٍ) فيه التصريح بأن السماوات سبع ، وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) فقيل : أي في العدد ، وقيل : أي في غلظهنّ وما بينهنّ. وقال الداودي : إن الأرض سبع ، ولكن لم يفتق بعضها من بعض. والصحيح أنها سبع كالسماوات. وقد ثبت في الصحيح قوله صلىاللهعليهوسلم : «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوّقه الله من سبع أرضين» وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد. ومعنى قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَ) سوّى سطوحهن بالإملاس ؛ وقيل : جعلهنّ سواء. قال الرازي في تفسيره : فإن قيل : فهل يدل التنصيص على سبع سماوات. أي : فقط؟ قلنا : الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد والله أعلم. انتهى. وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع. ونحن نقول : إنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله
__________________
(١). المؤمنون : ٢٨.
(٢). الزخرف : ١٣.
(٣). النازعات : ٢٧.
(٤). النازعات : ٣٠.
(٥). الأنعام : ١.