اسْتَوْقَدَ ناراً) (١) وقوله (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) (٢) فقالوا : الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال. وقال الرازي : إنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزا أورد هاهنا شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها ، وتقرير الشبهة : أنه جاء في القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء ، فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن كونه معجزا. وأجاب الله عنها بأن أصغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكمة بالغة. انتهى. ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا دليل عليه ، وقد تقدّمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف ، والظاهر ما ذكرناه أوّلا ؛ لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها ، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحا في الفصاحة والإعجاز. والحياء : تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم ، كذا في الكشاف ، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب. وقال القرطبي : أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله. انتهى ، وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل : ساغ ذلك لكونه واقعا في الكلام المحكي عن الكفار ، وقيل : هو من باب المشاكلة كما تقدم ، وقيل هو جار على سبيل التمثيل. قال في الكشاف : مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. انتهى. وقد قرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية عنه (يَسْتَحْيِي) بياء واحدة وهي لغة تميم وبكر بن وائل ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. وضرب المثل : اعتماده وصنعه. و «ما» في قوله : (ما بَعُوضَةً) إبهامية ، أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعمّ مما كان عليه وأكثر شيوعا في أفراده ، وهي في موضع نصب على البدل من قوله : (مَثَلاً) و (بَعُوضَةً) نعت لها لإبهامها ، قاله الفراء والزجاج وثعلب ، وقيل : إنها زائدة ، وبعوضة بدل من مثل. ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر ، وقيل : إنها منصوبة بنزع الخافض ، والتقدير : أن يضرب مثلا ما بين بعوضة ، فحذف لفظ بين. وقد روي هذا عن الكسائي ، وقيل : إنّ يضرب بمعنى يجعل ، فتكون بعوضة المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج «بعوضة» بالرفع وهي لغة تميم. قال أبو الفتح : وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة الذي ، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ ، ويحتمل أن تكون «ما» استفهامية كأنه قال تعالى : (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) حتى لا يضرب المثل به ، بل يدان لمثل بما هو أقلّ من ذلك بكثير ، والبعوضة فعولة من بعض : إذا قطع ، يقال : بعض وبضع بمعنى ، والبعوض : البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها قاله الجوهري وغيره. وقوله : (فَما فَوْقَها) قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما : فما فوقها والله أعلم ما دونها : أي أنها فوقها في الصغر كجناحها. قال الكسائي وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيرا فيقول القائل أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى. ويمكن أن يراد فما زاد عليها في الكبر. وقد قال بذلك جماعة. قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أما حرف فيه معنى الشرط ، وقدّره سيبويه بمهما يكن من شيء فكذا. وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه
__________________
(١). البقرة : ١٧.
(٢). البقرة : ١٩.