والقرب ، يقال : هذا دون ذاك ، أي أقرب منه ، ويكون إغراء ، تقول : دونك زيدا : أي خذه من أدنى مكان (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بادعوا : أي ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم. والصدق : خلاف الكذب ، وهو مطابقة الخبر للواقع أو للاعتقاد أو لهما ، على الخلاف المعروف في علم المعاني. (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) يعني فيما مضى (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أي تطيقوا ذلك فيما يأتي وتبيّن لكم عجزكم عن المعارضة (فَاتَّقُوا النَّارَ) بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه ، وعبر عن الإتيان بالفعل لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار ، وجملة لن تفعلوا : لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية ، ولن للنفي المؤكد لما دخلت عليه ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها ، لأنها لم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوّة وفيما بعدها وإلى الآن. والوقود بالفتح : الحطب ، وبالضم : التوقّد ، أي المصدر ، وقد جاء فيه الفتح. والمراد بالحجارة : الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقودا للنار معهم. ويدلّ على هذا قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) أي : حطب جهنم. وقيل المراد بها حجارة الكبريت ، وفي هذا من التهويل ما لا يقدّر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة ، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها ، والمراد بقوله : (أُعِدَّتْ) جعلت عدّة لعذابهم وهيئت لذلك. وقد كرّر الله سبحانه تحدّي الكفار بهذا في مواضع في القرآن ، منها هذا ، ومنها قوله تعالى في سورة القصص : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) وقال في سورة سبحان : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٣) وقال في سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) وقال في سورة يونس : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٥).
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر ، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه ، والحقّ الأول ، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه.
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من نبيّ من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنّما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) قال : هذا قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) قال : في شك (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) قال : من مثل القرآن حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب. وأخرج ابن
__________________
(١). الأنبياء : ٩٨.
(٢). القصص : ٤٩.
(٣). الإسراء : ٨٨.
(٤). هود : ١٣.
(٥). يونس : ٣٧ ـ ٣٨.