بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك في السنة. وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمدا ، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له ، أي : يستحقها بسبب هذا الذنب ، وبين كونه خالدا فيها ، وبين غضب الله عليه ، ولعنته له ، وإعداده له عذابا عظيما. وليس وراء هذا التشديد تشديد ، ولا مثل هذا الوعيد وعيد. وانتصاب خالدا : على الحال. وقوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) معطوف على مقدّر ، يدل عليه السياق ، أي : جعل جزاءه جهنم ، أو حكم عليه ، أو جازاه ، وغضب عليه ، وأعدّ له.
وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف فيها علماء أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء ، وقد روى النسائي عنه نحو هذا. وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه ، وممن ذهب : إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو سلمة ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور : إلى أن التوبة منه مقبولة ، واستدلوا بمثل قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (٢). وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣) ، قالوا أيضا : والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان ، فيكون معناهما : فجزاؤه جهنم إلّا من تاب ، لا سيما وقد اتحد السبب ـ وهو القتل ـ والموجب ، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا : بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ ، ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه» وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره : في الذي قتل مائة نفس ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي : إلى أن القاتل عمدا داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. وقد أوضحت في شرحي على المنتقى (٤) متمسّك كلّ فريق.
والحق : أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدّها تمحوه التوبة إلى الله ، ويقبل من صاحبه الخروج منه ، والدخول في باب التوبة ، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟ لكن لا بدّ في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل ، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا ، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا ، وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها ، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا ، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد ، من دون اعتراف ، ولا تسليم نفس ، فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم الراحمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
__________________
(١). هود : ١١٤.
(٢). الشورى : ٢٥.
(٣). النساء : ٤٨.
(٤). هو كتاب «نيل الأوطار».