ورفع أستار محجبات الدقائق ، ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه.
قال ابن جرير : إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (١). وقال ابن كثير : إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٢). قال ابن جرير : وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال : (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (٣) أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (٤).
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا يعتزّون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يقول : في عذاب : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قالوا : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة ثم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشرّ ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشرّ. فهم (صُمٌّ بُكْمٌ) هم الخرس ، (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : ضربه الله مثلا للمنافق ، وقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم.
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))
عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين : أي مثلوهم بهذا أو هذا ، وهي
__________________
(١). البقرة : ٨.
(٢). المنافقون : ٣.
(٣). الأحزاب : ١٩.
(٤). الجمعة : ٥.