فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب ، حتى رجعوا عما هموا به (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) متعلق بقوله : (سَنُلْقِي) وما : مصدرية ، أي : بسبب إشراكهم (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : ما لم ينزل الله بجعله شريكا له حجة وبيانا وبرهانا ، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد ، أي : لا حجة ولا إنزال ، والمعنى : أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل. والمثوى : المكان الذي يقام فيه ، يقال : ثوى ، يثوي ، ثواء. قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) نزلت لما قال بعض المسلمين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء ، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده ؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة ؛ وترك الرماة مركزهم طلبا للغنيمة ؛ كان ذلك سبب الهزيمة. والحسّ : الاستئصال بالقتل ، قاله أبو عبيد. يقال : جراد محسوس : إذا قتله البرد ، وسنة حسوس ، أي : جدبة تأكل كل شيء. قيل : وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه : أذهب حسه بالقتل ، وتحسونهم : تقتلونهم وتستأصلونهم ، قال الشاعر :
حسسناهم بالسيف حسّا فأصبحت |
|
بقيّتهم قد شرّدوا وتبدّدوا |
وقال جرير :
تحسّهم السّيوف كما تسامى |
|
حريق النّار في الأجم الحصيد |
(بِإِذْنِهِ) أي : بعلمه ، أو بقضائه (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي : جبنتم وضعفتم ، قيل : جواب حتى محذوف ، تقديره : امتحنتم ، وقال الفراء : جواب حتى : قوله : (وَتَنازَعْتُمْ) والواو مقحمة زائدة ، كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١) وقال أبو علي : يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم ؛ وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم ؛ وقيل : إن الجواب : عصيتم ، والواو مقحمة. وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ) (٢) ؛ وقيل : حتى : بمعنى إلى ، وحينئذ لا جواب لها ، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم : نلحق الغنائم ، وقال بعضهم : نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ومعنى قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد ، كما تقدّم ، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني : الغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالا لأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي : ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) لما علم من ندمكم ، فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، والخطاب لجميع المنهزمين ، وقيل : للرماة فقط. قوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلق بقوله : (صَرَفَكُمْ) أو بقوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أو بقوله : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) وقرأه الجمهور : بضمّ التاء وكسر العين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة : بفتح التاء والعين. وقرأ ابن محيصن وقنبل : «يصعدون» بالتحتية. قال أبو حاتم : أصعدت : إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت : إذا ارتقيت في جبل ، فالإصعاد : السير في مستوى الأرض وبطون الأودية ، والصعود : الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل
__________________
(١). الصافات : ١٠٣.
(٢). التوبة : ١١٨.