الَّذِينَ آمَنُوا) من جملة العلل ، معطوف على ما قبله. والتمحيص : الاختبار ؛ وقيل : التطهير ، على حذف مضاف ، أي : ليمحص ذنوب الذين آمنوا ، قاله الفراء ؛ وقيل : يمحص : يخلص ، قاله الخليل والزجاج ، أي : ليخلص المؤمنين من ذنوبهم. وقوله : (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم بالهلاك ، وأصل التمحيق : محو الآثار ، والمحق : نقصها. قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز ، وأم هي المنقطعة ، والهمزة للإنكار ، أي : بل أحسبتم ، والواو في قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) واو الحال. والجملة حالية ، وفيه تمثيل كالأوّل ، أو علم يقع عليه الجزاء. وقوله : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) منصوب بإضمار أن ، كما قال الخليل وغيره على أن الواو للجمع. وقال الزجاج : الواو بمعنى : حتى ، وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر : «ويعلم الصّابرين» بالجزم ، عطفا على : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) وقرئ بالرفع ، على القطع ؛ وقيل : إن قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) كناية عن نفي المعلوم ، وهو الجهاد. والمعنى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر ، أي : الجمع بينهما ، ومعنى : (لَمَّا) معنى : «لم» عند الجمهور ، وفرّق سيبويه بينهما فجعل لم : لنفي الماضي ، ولما : لنفي الماضي والمتوقع. قوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) هو خطاب لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر ، فإنهم كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال ، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالخروج ، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير ، مثل أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك. وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) أي : القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت. وقرأ الأعمش «من قبل أن تلاقوه» وقد ورد النهي عن تمني الموت ، فلا بد من حمله هنا على الشهادة. قال القرطبي : وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم ، لأنه معصية وكفر ، ولا يجوز إرادة المعصية ، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة ، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدّى إلى القتل. قوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي : القتال أو ما هو سبب للموت ، ومحل قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) النصب على الحال ، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما : للمبالغة ، أي : قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم. قال الأخفش : إن التكرير بمعنى التأكيد ، مثل قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) وقيل : معناه : بصراء ليس في أعينكم علل ؛ وقيل : معناه : وأنتم تنظرون إلى محمد صلىاللهعليهوسلم. وقوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). سبب نزول هذه ما سيأتي : من أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما أصيب في يوم أحد صاح الشيطان قائلا : قد قتل محمد ، ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل : قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم ، وقال آخر : لو كان رسولا ما قتل ، فردّ الله عليهم ذلك وأخبرهم : بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل وسيخلو كما خلوا ، فجملة قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لرسول. والقصر قصر إفراد ، كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين : الرسالة ، وكونه لا يهلك ؛ فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك ؛ وقيل : هو قصر قلب. وقرأ ابن عباس : «قد خلت من قبل رسل» ثم أنكر الله عليهم بقوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي : كيف ترتدّون وتتركون دينه إذا مات أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو ،
__________________
(١). الأنعام : ٣٨.