مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (٢)
(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))
هذا كلام مستأنف استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليه الصلاة والسلام فقيل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) ويمكن أن يكون هذا خبرا عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ ، فيكون متصلا بما قبله. قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله : (عَلى هُدىً) مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به ، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرّحوا بذلك في قوله : جعل الغواية مركبا ، وامتطى الجهل ، واقتعد غارب الهوى ، انتهى. وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها «الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف» فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ، ويجمع بين أطراف الكلام على التمام. قال ابن جرير : إن معنى (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم ، و (الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة : الشقّ والقطع ، قاله أبو عبيد : ويقال للذي شقت شفته : أفلح ، ومنه سمي الأكّار فلّاحا لأنه شقّ الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي : وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضا في اللغة ، فمعنى (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالجنة والباقون. وقال في الكشاف : المفلح الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه ، انتهى. وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود : «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قلت : وما الفلاح؟ قال : السحور». فكأن معنى الحديث : أن السحور به بقاء الصوم ، فلهذا سمي فلاحا. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن كلا من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم ، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزا على حياله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره. وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة : أن الذين يؤمنون بالغيب : هم المؤمنون من العرب ، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما أنزل إلى من قبله : هم ، والمؤمنون من أهل الكتاب ، ثم جمع الفريقين فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقد قدّمنا الإشارة إلى هذا وإلى ما هو أرجح منه ، كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : قيل يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن
__________________
(١). البقرة : ٢٨٥.
(٢). النساء : ١٥٢.