وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))
هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لكونه : مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة. فرد الله ذلك عليهم بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) الآية ، فقوله : (وُضِعَ) صفة لبيت ، وخبر إن : قوله : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) فنبه تعالى بكونه : أول متعبد على أنه أفضل من غيره ، وقد اختلف في الباني في الابتداء : فقيل : الملائكة ، وقيل : آدم ، وقيل : إبراهيم ، ويجمع بين ذلك : بأول من بناه الملائكة ، جدده آدم ، ثم إبراهيم. وبكة : علم للبلد الحرام ، وكذا مكة ، وهما لغتان ، وقيل : إن بكة : اسم لموضع البيت ، ومكة : اسم للبلد الحرام ؛ وقيل : بكة : للمسجد ، ومكة : للحرم كله ؛ قيل : سميت بكة لازدحام الناس في الطواف ، يقال : بك القوم : ازدحموا ؛ وقيل : البك : دق العنق ، سميت بذلك لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة. وأما تسميتها : بمكة ، فقيل : سميت بذلك : لقلة ما بها ؛ وقيل : لأنها تمك المخ من العظم ، بما ينال ساكنها من المشقة ، ومنه مككت العظم : إذا أخرجت ما فيه ، وأمكته : إذا امتصه ، وقيل : سميت بذلك : لأنها تمك من ظلم فيها ، أي : تهلكه. قوله : (مُبارَكاً) حال من الضمير في وضع ، أو من متعلق الظرف ، لأن التقدير : للذي استقر ببكة مباركا ، والبركة : كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو يقصده ، أي : الثواب المتضاعف. والآيات البينات : الواضحات ، منها : الصفا والمروة ، ومنها : أثر القدم في الصخرة الصماء ، ومنها : أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن ، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها : انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان ، ومنها : هلاك من يقصده من الجبابرة وغير ذلك. وقوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) بدل من آيات ، قاله محمد بن يزيد المبرد. وقال في الكشاف : إنه عطف بيان. وقال الأخفش : إنه مبتدأ ، وخبره : محذوف ، والتقدير : منها مقام إبراهيم ؛ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي مقام إبراهيم ، وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات ـ وهي جمع ـ : بالمقام ـ وهو فرد ـ وأجاب : بأن المقام جعل وحده بمنزلة آيات ، لقوّة شأنه ، أو : بأنه مشتمل على آيات. قال : ويجوز أن يراد (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأن الاثنين نوع من الجمع. قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة مستأنفة ، لبيان حكم من أحكام الحرم ، وهو : أن من دخله كان آمنا. وبه استدل من قال : إن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حدّ من الحدود فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه ، وخالفه الجمهور ، فقالوا : تقام عليه الحدود في الحرم. وقد قال جماعة : إن الآية خبر في معنى الأمر ، أي : ومن دخله فأمنوه كقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) (١) أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا. قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) اللام في قوله : (لِلَّهِ) هي التي يقال لها : لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف (عَلَى) ، فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب
__________________
(١). البقرة : ١٩٧.