وهذا الاستثناء متصل من اسم كان. وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) متعلق بقوله : (كانَ حِلًّا) أي : أن كل المطعومات كانت حلالا (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : كان ما عدا المستثنى حلالا لهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم ، وفيه ردّ على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلىاللهعليهوسلم ، من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم وبغيهم ، كما في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (١). الآية. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) (٢) إلى قوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (٣) وقالوا : إنها محرّمة على من قبلهم من الأنبياء ، يريدون بذلك تكذيب ما قصة الله على نبينا صلىاللهعليهوسلم في كتابه العزيز ، ثم أمره سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم ، ويجعل بينه وبينهم حكما ما أنزله عليهم ، لا ما أنزل عليه فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حتى تعلموا صدق ما قصه الله في القرآن ، من أنه لم يحرّم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه. وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، ثم قال : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد إحضار التوراة وتلاوتها (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : المفرطون في الظلم المتبالغون فيه ، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعا صحيحا ، ثم جادل من بعد ذلك مفتريا على الله الكذب ؛ ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلا مدفوعا ، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدقته التوراة صحيحا صادقا ، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه ، أمر الله سبحانه نبيه صلىاللهعليهوسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب ، فقال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : ملة الإسلام التي أنا عليها ، وقد تقدم بيان معنى الحنيف ، وكأنه قال لهم : إذا تبين لكم صدقي ، وصدق ما جئت به ، فادخلوا في ديني ، فإن من جملة ما أنزله الله عليّ : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (٤).
وقد أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس «أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : فأخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال : كان يسكن البدو ، فاشتكى عرق النّسا ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها ، فلذلك حرّمها ، قالوا : صدقت» وذكر الحديث. وأخرجه أيضا أحمد ، والنسائي. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس في الآية قال : العرق أجده عرق النساء ، فكان يبيت له زق ، يعني : صياح ، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحما فيه عرق ، فحرمته اليهود. وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قوله : ما أخرجه الترمذي سابقا عنه مرفوعا. وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد ، والكليتان ، والشحم ، إلا ما كان على الظهر. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : قالت اليهود للنبي صلىاللهعليهوسلم نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل ، فقال الله لمحمد صلىاللهعليهوسلم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وكذبوا ليس في التوراة.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ
__________________
(١). النساء : ١٦٠.
(٢). الأنعام : ١٤٦.
(٣). الأنعام : ١٤٦.
(٤). آل عمران : ٨٥.