هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا ، أي : إذا داين بعضكم بعضا وعامله بذلك ، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) وقيل : إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله : (فَاكْتُبُوهُ) ولو قال : فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) والدين : عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا ، والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا ، قال الشاعر :
وعدتنا بدرهمينا طلاء |
|
وشواء معجّلا غير دين |
وقال الآخر :
إذا ما أوقدوا حطبا ونارا |
|
فذاك الموت نقدا غير دين |
وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصا أجل السّلم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» وقد قال بذلك الجمهور ، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين ، قالوا : ولا يجوز إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع القافلة ، أو نحو ذلك وجوّزه مالك. قوله : (فَاكْتُبُوهُ) أي : الدين بأجله ، لأنه أدفع للنزاع ، وأقطع للخلاف. قوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها ، وظاهر الأمر الوجوب ، وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما ، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ، ولم يوجد كاتب سواه ؛ وقيل الأمر للندب. وقوله : (بِالْعَدْلِ) متعلق بمحذوف صفة لكاتب ، أي : كاتب كائن بالعدل ، أي : يكتب بالسوية ، لا يزيد ولا ينقص ، ولا يميل إلى أحد الجانبين ، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة ، لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر ، بل يتحرّى الحق بينهم والمعدلة فيهم. قوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم ، أي : لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين كما علمه الله ، أي : على الطريقة التي علمه الله من الكتابة ، أو كما علمه الله بقوله : (بِالْعَدْلِ). قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) الإملال والإملاء لغتان : الأولى : لغة أهل الحجاز ، وبني أسد. والثانية : لغة بني تميم. فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى ، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢) و (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) هو من عليه الدين ، أمره الله تعالى بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته ، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب ، بالغ في ذلك بالجمع بين الاسم والوصف في قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ونهاه عن البخس وهو : النقص ؛ وقيل : إنه نهي للكاتب. والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ، ولو كان نهيا للكاتب لم يقتصره في نهيه على النقص ، لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص. والسفيه : هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء ، شبه بالثوب السفيه ، وهو : الخفيف النسج ، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة ، وعلى ضعف البدن أخرى ، فمن الأوّل قول الشاعر :
__________________
(١). الأنعام : ٣٨.
(٢). الفرقان : ٥.