إلى الكفر أشدّ من القتل ؛ وقيل : المراد بالفتنة : المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه ؛ وقيل : إن المراد بالفتنة : الشرك الذي عليه المشركون ، لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشدّ مما يستعظمونه ؛ وقيل : المراد : فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم. والظاهر أن المراد : الفتنة في الدين بأيّ سبب كان ، وعلى أيّ صورة اتفقت ، فإنها أشدّ من القتل. قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية ، اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلّا بعد أن يتعدّى بالقتال فيه ، فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له ، وهذا هو الحق. وقالت طائفة : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ويجاب عن هذا الاستدلال : بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص ، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم ، ومما يؤيد ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّها لم تحلّ لأحد قبلي ، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار» وهو في الصحيح. وقد احتج القائلون بالنسخ : بقتله صلىاللهعليهوسلم لابن خطل ، وهو متعلّق بأستار الكعبة ، ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحلّ الله لرسوله صلىاللهعليهوسلم قوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي : عن قتالكم ودخلوا في الإسلام. قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية ، هي : أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلّ قتاله ، قيل : المراد بالفتنة هنا : الشرك ، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف. قوله : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي : لا تعتدوا إلّا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ، ولم يدخل في الإسلام ، وإنما سمي جزاء الظالمين : عدوانا مشاكلة كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (٣).
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، أنها أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن كفّ عنه ، حتى نزلت سورة براءة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في هذه الآية قال : إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى السلام وكفّ يده ، فإن فعلتم فقد اعتديتم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : إن هذه الآية في النساء والذرية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يقول : الشرك أشدّ من القتل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من أن يقتل محقّا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) قال : حتى يبدؤوا بالقتال ، ثم نسخ بعد ذلك ، فقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، عن قتادة أن قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (٤) فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين
__________________
(١). التوبة : ٩.
(٢). الشورى : ٤٠.
(٣). البقرة : ١٩٤.
(٤). البقرة : ٢١٧.