هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبّل ، فتكون هذا الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة ، والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال : عكف على الشيء : إذا لازمه ، ومنه قول الشاعر :
وظلّ بنات اللّيل حولي عكّفا |
|
عكوف البواكي حولهنّ (١) صريع |
ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له : عاكف في المسجد ، ومعتكف فيه ، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد ، والاعتكاف في الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص. وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب ، وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد ، وللاعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث. وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي : هذه الأحكام حدود الله ، وأصل الحدّ : المنع ، ومنه سمي البوّاب والسجّان : حدادا ، وسميت الأوامر والنواهي : حدود الله ، لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج عنها ما هو منها ، ومن ذلك سميت الحدود : حدودا ؛ لأنها تمنع أصحابها من العود. ومعنى النهي عن قربانها : النهي عن تعدّيها بالمخالفة لها ؛ وقيل : إن حدود الله هي محارمه فقط ، ومنها المباشرة من المعتكف ، والإفطار في رمضان لغير عذر ، وغير ذلك مما سبق النهي عنه ، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح. وقوله (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) أي : كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق. وقد أخرج البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وغيرهم ، عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته ، فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) إلى قوله (مِنَ الْفَجْرِ) ففرحوا بها فرحا شديدا. وأخرج البخاري أيضا من حديثه قال : لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كلّه ، فكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الآية. وقد روي في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الناس أوّل ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام ، ثم قال : وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته ، ثم أتى رسول الله فقال : يا رسول الله! إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي ، وذكر ما وقع منه ، فنزل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : إن المسلمين كانوا في شهر رمضان ، إذا صلّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة ، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا النساء والطعام
__________________
(١). في القرطبي ٢ / ٣٣٢ : «بينهنّ».