من المراد بذلك؟ فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه ، وهو الراجح ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول ، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ، فإن من لعنه الله ، ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده ، قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ، ولا يدرك كنهها. وفي قوله : (مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك ، كما قال أبو هريرة : «حفظت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعاءين : أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» أخرجه البخاري. والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ) راجع إلى ما أنزلنا. والكتاب : اسم جنس ، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب ؛ وقيل : المراد به : التوراة. واللعن : الإبعاد والطرد. والمراد بقوله : (اللَّاعِنُونَ) الملائكة والمؤمنون ، قاله الزجاج وغيره ، ورجّحه ابن عطية ؛ وقيل : كل من يتأتى منه اللعن ، فيدخل في ذلك الجن ؛ وقيل : هم الحشرات والبهائم. وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلخ ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم ، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله. وقوله : (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) هذه الجملة حالية ، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين ، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم ، لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم ؛ وقيل : يجوز لعنه عملا بظاهر الحال كما يجوز قتاله. وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) إلخ ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم. قال القرطبي : ولا خلاف في ذلك. قال : وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلا أو مجنونا. وقال قوم من السلف : لا فائدة في لعن من جنّ أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر. قال : ويدل على هذا القول : أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم لا على الأمر به. قال ابن العربي : إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق ، لما روي «أن النبي صلىاللهعليهوسلم أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضر : لعنه الله ما أكثر ما يشربه ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم» والحديث في الصحيحين. وقوله : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) قيل : هذا يوم القيامة ، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر ، ومن يعلم بالعاصي ومعصيته ومن لا يعلم ، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس ؛ وقيل : في الدنيا ، والمراد أنه يلعنه غالب الناس ، أو كل من علم بمعصيته منهم. وقوله : (خالِدِينَ فِيها) أي : في النار ؛ وقيل : في اللعنة. والإنظار : الإمهال ، وقيل : معنى لا ينظرون : لا ينظر الله إليهم ، فهو من النظر ؛ وقيل : هو من الانتظار ، أي : لا ينتظرون ليعتذروا ، وقد تقدّم تفسير : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ). وقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك ، والإشارة إلى أنّ أوّل ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد.
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة ، وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل ، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفرا من أحبار اليهود