ولا قصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم. ويقال : فلان أوسط قومه وواسطتهم ، أي : خيارهم. وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي : يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم أنهم قد بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم ، ويكون الرسول شهيدا على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمره بتبليغه إليهم ، ومثله قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) ؛ قيل : إن قوله : (عَلَيْكُمْ) يعني : لكم ، أي : يشهد لهم بالإيمان ؛ وقيل : معناه : يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قال في الكشاف : لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢) (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣) انتهى. وقالت طائفة : معنى الآية : يشهد بعضكم على بعض بعد الموت ؛ وقيل : المراد : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول. وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله ؛ وإنما أخر لفظ (عَلَى) في شهادة الأمة على الناس ، وقدّمها في شهادة الرسول عليهم ، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأوّل : إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر : اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. وقوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) قيل : المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس ؛ أي : ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب ، ويؤيده هذا قوله : (كُنْتَ عَلَيْها) إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة ؛ وقيل : المراد : الكعبة ، أي : ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض ، ويكون (كُنْتَ) بمعنى الحال ؛ وقيل : المراد بذلك : القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس ، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة ، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفا لليهود ثم صرف إلى الكعبة. وقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قيل : المراد بالعلم هنا : الرؤية ؛ وقيل : المراد : إلّا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك ؛ وقيل : ليعلم النبيّ ، وقيل : المراد : لنعلم ذلك موجودا حاصلا ، وهكذا ما ورد معللا بعلم الله سبحانه لا بدّ أن يؤول بمثل هذا ، كقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) (٤) وقوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) أي : ما كانت إلا كبيرة ، كما قال الفراء في أن وإن : أنهما بمعنى ما وإلا. وقال البصريون : هي الثقيلة خففت ، والضمير في كانت : راجع إلى ما يدل عليه قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من التحويلة ، أو التولية ، أو الجعلة ، أو الردّة ، ذكر معنى ذلك الأخفش ، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة ، أي : وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان ، فانشرحت صدورهم لتصديقك ، وقبلت ما جئت به عقولهم ، وهذا الاستثناء مفرغ ؛ لأن ما قبله في قوّة النفي ، أي : أنها لا تخفّ ولا تسهل إلا على الذين هدى الله. وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) قال القرطبي : اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس ، ثم قال : فسمّى الصلاة إيمانا لاجتماعها على نية وقول وعمل ؛ وقيل : المراد : المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة ، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم. والأول يتعين القول به ، والمصير إليه ؛ لما سيأتي من تفسيره صلىاللهعليهوسلم للآية بذلك. والرؤوف : كثير الرأفة ، وهي أشدّ من الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء : الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لروف» بغير
__________________
(١). النساء : ٤١.
(٢). المائدة : ١١٧.
(٣). المجادلة : ٦.
(٤). آل عمران : ١٤٠.