وقد تقدم معنى خلا. والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، والفتّاح : القاضي بلغة اليمن ، والفتح : النصر ، ومن ذلك قوله تعالى : (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) وقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) (٢) ومن الأوّل (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) (٣) (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٤) أي الحاكمين ، ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين ، والمحاجّة : إبراز الحجة ، أي لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من العذاب فيكون ذلك حجة لهم عليكم فيقولون : نحن أكرم على الله منكم وأحقّ بالخير منه. والحجّة ، الكلام المستقيم ، وحاججت فلانا فحججته أي غلبته بالحجة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم. ثم وبّخهم الله سبحانه : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) من جميع أنواع الإسرار وأنواع الإعلان ، ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ثم قال الله لنبيه ومن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) وليس قوله : يسمعون التوراة كلهم قد سمعها ، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم ، فأخذتهم الصاعقة فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) الآية. قال : هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله يحرّفونه من بعد ما سمعوه ووعوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) الآية ، قال : الذين يحرّفونه والذين يكتبونه هم العلماء منهم ، والذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) قال : هي التوراة حرفوها. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا) أي : بصاحبكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكنه إليكم خاصة (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا فقد كنتم تستفتحون به عليهم ، وكان منهم (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي تقرّون بأنه نبيّ وقد علمتم أنه قد أخذ عليكم الميثاق باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي كان ينتظر ، ونجد في كتابنا : اجحدوه ولا تقرّوا به. وأخرج ابن جرير عنه أن هذه الآية في المنافقين من اليهود وقوله : (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) يعني بما أكرمكم به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب لتقولوا نحن أحبّ إلى الله منكم وأكرم على الله منكم. وقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن سبب نزول الآية : أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يدخلنّ علينا قصبة المدينة إلا مؤمن ، فكان اليهود يظهرون الإيمان فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار ، وكان المؤمنون يقولون لهم : أليس قد قال الله في التوراة كذا وكذا؟» فيقولون : نعم ، فإذا رجعوا إلى قومهم (قالُوا : أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) الآية ، وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن سبب نزول الآية «أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم فقال : يا إخوان القردة والخنازير ويا عبدة الطّاغوت ، فقالوا : من أخبر هذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا الأمر إلا منكم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ)» أي بما حكم الله ليكون
__________________
(١). البقرة : ٨٩.
(٢). الأنفال : ١٩.
(٣). سبأ : ٢٦.
(٤). الأعراف : ٨٩.