وحشية. وقال قوم : إنّ قوله : (تُثِيرُ) فعل مستأنف. والمعنى : إيجاب الحرث لها والنضح بها. والأوّل أرجح ، لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة ، وقد نفى الله ذلك عنها. وقوله : (مُسَلَّمَةٌ) مرتفع على أنه من أوصاف البقرة ، ويجوز أن يكون مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هي مسلمة. والجملة في محل رفع على أنها صفة ، والمسلمة : هي التي لا عيب فيها ؛ وقيل مسلمة من العمل ، وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها ، والتأسيس خير من التأكيد ، والإفادة أولى من الإعادة. والشية أصلها وشية ، حذفت الواو كما حذفت من يشي ، وأصله يوشي ، ونظيره الزنة والعدة والصلة ، وهي مأخوذة من وشى الثوب : إذا نسج على لونين مختلفين ، وثور موشى : في وجهه وقوائمه سواد. والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر. فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك ، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه ، أقصروا من غوايتهم ، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي أوضحت لنا الوصف ، وبيّنت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها ، فحصلوا على تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات (فَذَبَحُوها) وامتثلوا الأمر الذي كان يسرا فعسّروه ، وكان واسعا فضيّقوه (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة ، فكان ذلك مظنة للاستبعاد ، ومحلا للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم ، وقيل إنهم ما كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف ، وقيل لارتفاع ثمنها ، وقيل لخوف انكشاف أمر المقتول ، والأوّل أرجح. وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل.
وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين : الأوّل : أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ ، وبين البابين بون بعيد كما هو مقرر في علم الأصول. الثاني : أنا لو سلّمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه ، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأوّل أن يعمدوا إلى بقرة من عرض البقر فيذبحوها ، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفراء ، ولا دليل يدل على هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليهالسلام واقعة في لحظة واحدة ، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها ، ويديرون الرأي بينهم في أمرها ثم يوردونها ، وأقلّ الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عبيدة السلماني قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدّعيه عليهم حتى تسلّحوا ، وركب بعضهم إلى بعض ، فقال ذو الرأي منهم : علام يقتل بعضكم بعضا ، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية ، قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ، ولكنهم شدّدوا فشدّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله