حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) يعنى : ومن المكابدة أن مثلك ـ يا محمد ـ على عظم حرمتك ، يستحلّ بهذا البلد الحرام ، كما يستحل الصيد في غير الحرم.
وفيه تثبيت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته.
أو سلى صلىاللهعليهوسلم بالقسم ببلده ، على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عليه فقال : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ).
يعنى : وأنت حل به في المستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر.
فإن قلت : أين نظير قوله : (وَأَنْتَ حِلٌ) في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله ـ تعالى ـ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال ، أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟ (١).
ويرى بعضهم أن معنى قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) : وأنت مقيم بهذا البلد ، ونازل فيه ، وحال به ، وكفى فخرا لمكة أن تنزل فيها ـ أيها الرسول الكريم ـ فإن الأمكنة الشريفة تزداد شرفا بنزول رسل الله ـ تعالى ـ فيها ، فكيف وأنت خاتمهم وإمامهم؟.
قال بعض العلماء : وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين : أن معنى «وأنت حل بهذا البلد» وأنت ساكن بهذا البلد ، حال فيه .. وهو يقتضى أن تكون هذه الآية موضع الحال من ضمير «أقسم» فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار بلد محمد صلىاللهعليهوسلم وهو تأويل جميل ، لو ساعد عليه ثبوت استعمال «حل» بمعنى حالّ ، أى : مقيم في مكان ، فإن هذا لم يرد في كتب اللغة .. ولذا لم يذكر هذا المعنى صاحب الكشاف .. (٢).
ويبدو لنا أن هذه الأقوال لا تعارض بينها ، بل يؤيد بعضها بعضا ، لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد آذاه أهل مكة ، بينما حرموا إيذاء غيره ، وأن الله ـ تعالى ـ قد مكن رسوله صلىاللهعليهوسلم منهم. كما حدث في غزوة الفتح ، وأنه صلىاللهعليهوسلم قد أقام معهم في مكة أكثر من خمسين سنة ، وكان يلقب عندهم بالصادق الأمين ..
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٥٣.
(٢) تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور ـ رحمهالله ـ ج ٣٠ ص ٣٤٨.