وقول هذا الإنسان في الحالين ، قول مذموم ، يدل على سوء فكره ، وقصور نظره ، وانطماس بصيرته ، لأنه في حالة العطاء والسعة في الرزق. يتفاخر ويتباهى ، ويتوهم أن هذه النعم هو حقيق وجدير بها ، وليست من فضل الله ـ تعالى ـ وكأنه يقول ما قاله قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) وفي حالة المنع والضيق في الرزق يجزع ، ويأبى أن يرضى بقضاء الله وقدره .. ولا يخطر بباله أن نعم الله ، إنما هي فضل تفضل به ـ سبحانه ـ عليه ليختبره ، أيشكر أم يكفر. وأن تضييقه عليه في الرزق ، ليس من الإهانة في شيء ، بل هو للابتلاء ـ أيضا ـ والامتحان ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ).
قال الإمام الشوكانى عند تفسيره لهاتين الآيتين : وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث ، لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسع في متاعها ، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها ، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ، ويوفقه لعمل الآخرة.
ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم ، لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير ، وما أصيب به من الشر في الدنيا ، ليس إلا للاختبار والامتحان ، وأن الدنيا بأسرها ، لا تعدل عند الله ـ تعالى ـ جناح بعوضة .. (١).
واقتصر ـ سبحانه ـ في الآية الكريمة على تقتير الرزق ، في مقابلة النعمة ، دون غير ذلك من الأمراض والآفات ، للإشعار بأن هذا الإنسان يعتبر دنياه جنته ومنتهى آماله. فهو لا يفكر إلا في المال ولا يحزن إلا من أجله ، وأن المقياس عنده لمقادير الناس هو على حسب ما عندهم من أموال كما قال شاعرهم :
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم |
|
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد |
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي |
|
بنون كرام ، سادة لمسوّد |
ولما كان هذا القول مذموما من هذا الإنسان في الحالين. لعدم شكره لله ـ تعالى ـ في حالة الرخاء ، ولعدم صبره على قضائه في حالة البأساء.
لما كان الأمر كذلك جاء حرف الردع بعد ذلك فقال ـ تعالى ـ : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).
فقول ـ تعالى ـ : (كَلَّا) زجر وردع عن قول هذا الإنسان (رَبِّي أَكْرَمَنِ) عند
__________________
(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٤٣٨.