والعمل لصالح ، وآثروا متع الدنيا على ثواب الآخرة .. كان جزاؤهم يوم القيامة ، الإذلال ، والعمل الشاق المهين الذي لا تعقبه راحة.
ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن هذه الوجوه الشقية بأخبار أخرى فقال : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أى : أن هذه الوجوه تشوى بالنار الحامية يوم القيامة. يقال : صلى فلان النار فهو يصلاها ، إذا لفحته بحرها لفحا شديدا.
(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أى : هذه الوجوه يسقى أصحابها من عين قد بلغت النهاية في الحرارة والغليان ، إذ الشيء الآتي ، هو الذي بلغ النهاية في الحرارة ، يقال : أتى الماء يأتى ـ كرمى يرمى ـ ، إذا بلغ الغاية في الغليان ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ).
قال الإمام ابن جرير : قوله : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أى : تسقى أصحاب هذه الوجوه من شراب عين قد أنى حرها ، فبلغ غايته في شدة الحر ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .. فعن ابن عباس : هي التي قد طال أنيها ـ أى : حرها ـ.
وقال بعضهم : عنى بقوله : (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أى : من عين حاضرة ـ أى : حاضرة لعذابهم .. (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ).
والضريع : هو شجر في النار يشبه الشوك ، فيه ما فيه من المرارة والحرارة وقبح الرائحة.
وقوله : (يُسْمِنُ) من السّمن ـ بكسر السين وفتح الميم ـ وهو وفرة اللحم والشحم في الحيوان وغيره. يقال : فلان أسمنه الطعام ، إذا عاد عليه بالسمن.
وقوله (يُغْنِي) من الإغناء ودفع الحاجة. يقال : أغنانى هذا الشيء عن غيره ، إذا كفاه واستغنى به عن سواه. أى : أن أصحاب هذه الوجوه التعيسة بجانب شرابهم من الماء البالغ النهاية في الحرارة ، لهم ـ أيضا ـ طعام من أقبح الطعام وأردئه وأشنعه وأشده مرارة .. هذا الطعام لا يأتى بسمن ، ولا يغنى من جوع ، بل إن آكله ليزدرده رغما عنه.
فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد أخبر عن أصحاب هذه الوجوه الشقية بجملة من الأخبار المحزنة المؤلمة ، التي منها ما يتعلق بهيئاتهم ، ومنها ما يتعلق بأحوالهم ، ومنها ما يتعلق بشرابهم ، ومنها ما يتعلق بطعامهم.
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٠٢.