وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها من إنسان إلى آخر ، وفي الإنسان عن التراب ، إلا أن أصنافها واحدة.
إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآنى.
فقد تكون الحقيقة القرآنية تعنى هذا الذي أثبته العلم ، أو تعنى شيئا آخر سواه ، وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو من طين ، أو من صلصال ...
والذي ننبه إليه بشدة ، هو ضرورة عدم قصر النص القرآنى على كشف علمي بشرى ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان ، وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة (١).
والمعنى : خلق ـ سبحانه ـ بقدرته أباكم آدم الذي هو أصلكم ، وعنه تفرع جنسكم من طين يابس يشبه الفخار في يبوسته وصلابته.
(وَخَلَقَ) ـ سبحانه ـ (الْجَانَ) أى : جنس الجن (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أى : من لهب خالص لا دخان فيه ، أو مما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر وغير الأحمر ، إذ المارج ، هو المختلط ، وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق ، أى : خلق جنس الجان من خليط من لهب النار. ومن في قوله (مِنْ نارٍ) للبيان.
قال ابن كثير : يذكر الله ـ تعالى ـ خلقه الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقه الجان من مارج من نار ، وهو طرف لهبها قاله الضحاك ، وعن ابن عباس : من مارج من نار ، أى : من لهب النار ..
وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار. وخلق آدم مما وصف لكم» (٢).
والمقصود بالآيتين تذكير بنى آدم بفضلهم على غيرهم ، حيث بين ـ سبحانه ـ لهم مبدأ خلقهم ، وأنهم قد خلقوا من عنصر غير الذي خلق منه الجن ، وأن الله ـ تعالى ـ قد أمر إبليس المخلوق من النار ، بالسجود لأبيهم آدم المخلوق من الطين ، فعليهم أن يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة ، وأن يحذروا وسوسة إبليس وجنوده.
وبعد أن أمر بشكر هذه النعم ، أتبع ذلك ببيان مظهر آخر من مظاهر قدرته ، فقال :
__________________
(١) راجع في ظلال القرآن ج ٢٧ ص ٣٥٤١.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧١.