وقوله ـ سبحانه ـ : (يُبايِعُونَكَ) من المبايعة أو من البيعة ، بمعنى المعاهدة أو العهد ، وسميت المعاهدة مبايعة ، لاشتمال كل واحدة منهما على معنى المبادلة ، وعلى وجوب الصدق والوفاء.
والمراد بهذه المبايعة ، ما كان من المؤمنين في صلح الحديبية ، عند ما عاهدوا الرسول صلىاللهعليهوسلم على الثبات وعلى مناجزة المشركين بعد أن أشيع أنهم قتلوا عثمان ـ رضى الله عنه ـ. أى : إن الذين يبايعونك على الموت أو على عدم الفرار عند لقاء المشركين ، إنما يبايعون ويعاهدون الله ـ تعالى ـ على ذلك قبل أن يبايعوك أنت ، لأن المقصود من هذه البيعة إنما هو طاعته ـ سبحانه ـ وامتثال أمره ، كما قال ـ تعالى ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). فالمقصود بقوله : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) تأكيد وجوب الوفاء بما عاهدوا الرسول صلىاللهعليهوسلم عليه من الثبات وعدم الفرار ، والطاعة له في كل ما يأمرهم به.
وقوله ـ سبحانه ـ : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) زيادة في تأكيد وجوب الوفاء.
ومذهب السلف في هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات : أنه يجب الإيمان بها ، وتفويض علم معناها المراد منها إلى الله ـ تعالى ـ وترك تأويلها مع تنزيهه ـ تعالى ـ عن حقيقتها ، لاستحالة مشابهته ـ تعالى ـ بالحوادث ، كما قال ـ سبحانه ـ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
أما الخلف فمذهبهم تأويل هذه الصفات على معنى يليق بجلاله ، فيؤولون اليد هنا بالقوة أو القدرة. أى : قوة الله ـ تعالى ـ وقدرته ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم ، كما يقال : اليد في هذه المسألة لفلان ، أى : الغلبة والنصرة له.
أو المعنى : يد الله ـ تعالى ـ بالوفاء بما وعدهم من الخير والنصرة فوق أيديهم ..
والمقصود بهذه الجملة ـ كما أشرنا ـ زيادة التأكيد على وجوب الوفاء والثبات.
قال صاحب الكشاف : لما قال ـ سبحانه ـ : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أكده تأكيدا على سبيل التمثيل ، فقال : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يريد أن يد رسول الله صلىاللهعليهوسلم التي تعلو أيدى المبايعين : هي يد الله ، والله ـ تعالى ـ منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ..
وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق من الرسول صلىاللهعليهوسلم كعقده مع الله ـ تعالى ـ (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة الناكثين فقال : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٣٥.