وأيضا : إذا فرغت من تبليغ الرسالة توجه إلى الله ممّا سوى الله ، وقل : الله ؛ حيث لم يكن غير الله ، ثم ذر الأكوان والحدثان بعد قولك الله ؛ ليوافق لسان الظاهر سريرة الباطن في المحبة.
قال بعضهم : دعا خواصه بهذه الآية إلى الانقطاع من كشف ما له إلى الكشف عمّا به.
وقيل : (قُلِ اللهُ) إشارة إلى جريان السر ، (قُلِ اللهُ) في سرك ، وذر ما في لسانك.
حكي أن رجلا سأل الشبلي ، وقال : يا أبا بكر ، لم تقول الله ، ولا تقول لا إله إلا الله؟ فقال الشبلي : لا أنفي به ضدّا ، فقال : زد عليّ من ذلك يا أبا بكر ، فقال الشبلي : لا يجري لساني بكلمة الجحود ، فقال : زد عليّ من ذلك ، فقال : أخشى الله أن أؤخذ في وحشة الجحد ، فقال : زد عليّ من ذلك ، فقال : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١] ، فزعق الرجل وخرجت روحه ، فتعلق أولياء الرجل بالشبلي ، وادّعوا عليه دمه ، فحملوه إلى الخليفة ، فخرجت الرسالة إلى الشبلي من عند الخليفة يسأله عن دعواه ، فقال الشبلي : روح حنت فدنت ، فدعيت فأجابت ؛ فما ذنبي؟! فصاح الخليفة من وراء الحجاب : خلوه ، لا ذنب له.
(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))
قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : مقدس من تهمة الأوهام ، غير مدرك بحقائقه عند الأنام.
وأيضا : مبارك عليك ، وعلى أمتك الصادقين الذين يتبعونه بالشوق والمحبة ، ويفهمونه بالذكر والهيبة ، فيصلون به إلى رؤية خزائن صفات القدم ؛ لأنه صفة تدل كلماته إلى جميع الصفات وعرفانها ونيل خزائنها ؛ لأنه مفتاح كنوز الصفات والذات ، وهو ميمون علا كل عارفيه ، وعلا كل متابعيه بالتدبر فيه ، واقتباس أنواره كما ذكر في موضع آخر : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].
وأيضا : مبارك ؛ لأنه كتاب الحبيب إلى الحبيب ، فيه أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال ، والتحذير من البعد والفراق ، وهو مسامرة النجوى لأهل النور والتقى ، ومشحون بإشارات العارفين ، ومعجون بمفرحات فؤاد الموحدين ، مكنوناته مصونة عن عيون الأغيار ، ولطائفها محروسة عن مطالعة أهل الاغترار ، وهو يوافق جميع الكتب في تعريف الله بصفاته وذاته وعبوديته ؛ لأنها جميعا من مصدر واحد وصفة واحدة غير متغيرة.
قيل : مبارك على من اتبعه وآمن به.