خاطره بقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بعد قوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ، حين انكشف في عينه جمال الجبروت الأول مقام الإيقان ، والآخر مقام العرفان وطريق تسليم نفسه لله في محل الامتحان بنعت سلامة القلب عما دون الرب ، قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩].
وزاد في وصفه بقوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] امتحن تسليمه بذبح الولد ، فمرر السكين على حلقه سبعين مرة ، وامتحن بنفسه بإلقائه في النار ، فعرض عليه جبريل عليهالسلام المعاونة ، فقال : «ألك لي حاجة؟ فقال : أما إليك فلا» (١).
وبيّن سبحانه إذا كان الخليل بهذه الصفة في عبوديته وعرفان ربوبيته اتخذه ، كان في الأزل خليل الله بلا علة ولا تهمة ، اصطفاه بالخلة في الأزل ، ولو كانت خلته بعوض ما كان فضلا ؛ لأن اصطفائيته بالخلة وصف الأزل ، والأزل قديم قبل وجود الحوادث ، حيث أقبلت صفته تعالى وهى المحبة إلى الذات ، وأقبل الذات إلى الصفة ، وتجلى الذات للصفات ، ثم تجلى الذات والصفات للفعل ، وتجلى الفعل إلى القدم ، فظهر الخليل بوصف الخليل ، ويرى الخليل الخليل بعين الجليل ، فصار خليلا للجليل ، ولذلك قال تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، وهذا الذي بعينه للحبيب ، والحبيب أفضل من الخليل ؛ لأن المحبة لبّ الخلة ، ثم صرّح بالإشارة أن المحسن الراضي إذا تابع الحبيب والخليل فيما ذكرنا صار حبيب الله وخليل الله.
قال بعضهم في هذه الآية : أي من أحسن حالا ممن رضي بمجاري الأقدار عليه في العسر واليسر ، وأسلم قلبه إلى ربه ، وأخلص وجهه له وهو محسن ، أي : متبع لسنة المصطفى صلىاللهعليهوسلم.
وقال أبو بكر : من ظاهر واتبع ملّة إبراهيم عليهالسلام حنيفا ، أي : يخرج من الكونين إقبالا منه على الحق.
وقال الواسطي : حنيفا أي : مطهّرا من أدناس الكون ، خالصا للحق ممّا يبدو له وعليه.
قال ابن عطاء : اتخذه خليلا ، ولم نخالك سرائره شيئا غيره ، فذلك حقيقة الخلّة.
وأنشد :
قد تخللت مسلك الروح مني |
|
وبذا سمّي الخليل خليلا |
فإذا ما نطقت كنت حديثي |
|
وإذا ما غشت كنت عليلا |
قال الحسين : اتخذه خليلا ، ولا صنع لإبراهيم عليهالسلام فيه ، وذلك موضع المنّة ، ثم أثنى
__________________
(١) رواه البيهقي في الشعب (٢ / ٢٩).