فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً). وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣].
وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ، ويؤمر بالتضرع والاستكانة.
وقال الناصر في (الانتصاف) : وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية ، فالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء ، وإن دعاء لا تضرّع فيه ولا خشوع ، لقليل الجدوى. فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه. وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء ، خصوصا في الجوامع ، حتى يعظم اللغط ويشتدّ ، وتستكّ المسامع وتستدّ ، ويهتز الداعي بالناس ، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين : رفع الصوت في الدعاء ، وفي المسجد ، وربما حصلت للعوامّ حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت ، ورعاية سمت الوقار ، وسلوك السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ، ليست خارجة عن صميم الفؤاد ، لأنها لو كانت من أصل ، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء. وفي خفض الصوت به ، أوفر وأوفى وأزكى. فما أكثر التباس الباطل بالحق ، على عقول كثيرة من الخلق. اللهم! أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ـ انتهى ـ.
وقد روى الحافظ أبو الشيخ في (الثواب) عن أنس مرفوعا : دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي : لا يحب دعاء المجاوزين لما أمروا به في كل شيء ، ويدخل فيه الاعتداء بترك الأمرين المذكورين ، وهما التضرع والإخفاء دخولا أوليّا.
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية كراهية الاعتداء في الدعاء. وفسره زيد ابن أسلم بالجهر ، وأبو مجلز بسؤال منازل الأنبياء ، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالسر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. ولا يخفى أن هذا جميعه مما يشمله الاعتداء.