إلى العلوّ ، مع كونه على عرشه مباينا لخلقه. وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض. وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من إعتقاد فاسد ، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريّا ، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته ، سبحانه عن مشابهة المخلوقين ـ وجب (فيما عند الزاعم) أن يكون سبحانه كريا ، ثم يعتقد أنه إذا كان كريّا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات ، وهذا خطأ ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها ، بل قد تبين أن سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. فإذا كانت الحمصة مثلا في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك ، هل يتصور عاقل ، إذا استشعر علوّ الإنسان على ذلك وإحاطته ، بأن يكون الإنسان كالفلك؟ فالله تعالى ـ وله المثل الأعلى ـ أعظم من أن يظن به ذلك. وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله (حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر : ٦٧]. وإذا لم يكن كريّا. فالأمر ظاهر مما تقدم ، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة ، والله تعالى أعلم.
وإنما أشبعنا الكلام ، في هذا المقام ، لأنه من أصول العقائد الدينية ، ومهمات المسائل التوحيدية ، وقد كثر فيه تعارك الآراء ، وتصادم الأهواء ، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء ، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء ، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين ، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين ، فإن الأئمة منهم ، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين ، والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يغطيه به ، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار ، فيغطيه ويلبسه ، حتى يذهب بنوره ، ويصير الجو مظلما ، بعد ما كان مضيئا. قال الشهاب : وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الاستعارة ، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه ، فكأنه لفّ عليه لفّ الغشاء ، أو شبه تغييب كل منهما ، بطريانه عليه ، بستر اللباس للابسه ـ انتهى ـ.
ولم يذكر العكس للعلم به ، أو لأن اللفظ يحتملهما ، ولذلك قرئ (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) بنصب الليل ، ورفع النهار (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يعقبه سريعا ، كالطالب له ، لا يفصل بينهما شيء. قال الرازيّ : وإنما وصف سبحانه هذه الحركة بالسرعة ،