ثم بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(١١١)
(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) أي : ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة ، بل نزلنا إليهم الملائكة ، كما قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١].
(وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) كما قالوا (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الدخان : ٣٦]. (وَحَشَرْنا) أي : جمعنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ) من الحيوانات والنباتات والجمادات ، (قُبُلاً) أي : كفلاء بصحة ما بشروا به وأنذروا (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لغلوهم في التمرد والطغيان ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : إيمانهم فيؤمنوا ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أي : إنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا ، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.
قال القاشاني : وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات ، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس ، وإقرار باللسان ، وليس في القلب من معناه شيء ، كإيمان أصحاب السامريّ. والإيمان لا يكون إلا بالجنان ، كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤].
تنبيهان :
الأول ـ يقرأ (قبلا) بضم القاف والباء ، وفيه وجهان : أحدهما : هو جمع قبيل بمعنى الكفيل ، مثل قليب وقلب ؛ والآخر : أنه مفرد ، كقبل الإنسان ودبره. وعلى كلا الوجهين هو حال من كلّ. ويقرأ بالضم وسكون الباء على تخفيف الضمة ويقرأ بكسر القاف وفتح الباء ، وانتصابه على الظرفية. كقولهم : لي قبل فلان حق. أو على الحالية ، وهو مصدر ، أي عيانا ومشاهدة.
الثاني ـ في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) حجة واضحة على المعتزلة ، لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى ، حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة ، وحملة شريعتها على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.