وقيل : الإخبار على سبيل الاستهزاء ... إلى أقوال أخر.
والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة ، واعتقاد ربوبية ذلك ، لمنافاته للعصمة.
وأقول : هذا مسلّم بلا ريب ، ولكنّ الأوجه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أوّلا من أن قوله : (هذا رَبِّي) من باب استعمال النصفة مع الخصوم ، على سبيل الوضع ، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها ، لكونها مسلمة عند غيره ، لأجل إلزامه بها. وهو مصطلح أهل الجدل. وقد اقتصر الزمخشريّ على هذا الوجه الفريد.
قال الناصر في (الانتصاف) : وذلك متعين. وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة (١) أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فيلتمسون منه الشفاعة ، فيقول : نفسي! نفسي! ويذكر كذباته الثلاث ، ويقول : لست لها ، يريد قوله لسارة هي أختي ، وإنما عنى : في الإسلام ، وقوله : إنه سقيم ، وإنما عنى همّه بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك ـ وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض. فإذا عدّ صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات ، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها ، دلّ ذلك على أنها أعظم ما صدر منه. فلو كان الأمر على ما يقال ، من أن هذا الكلام محكيّ عنه على أنه نظره لنفسه ، لكان أولى أن يعدّه ، وأعظم ، مما ذكرناه. لأنه حينئذ يكون شكا ، بل جزما. على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك ، انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير (٢) من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) الآية. وقال محمد بن إسحاق قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ. فلما حملت أم إبراهيم به ، وحان وضعها ، ذهبت إلى سرب ، ظاهر البلدة ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين.
__________________
(١) حديث الشفاعة هذا أخرجه البخاري في مواضع : ومنها في : التوحيد ، ٢٤ ـ باب قول الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، حديث ٤٠ ، عن أنس وفيه ذكره ، عليهالسلام ، كذباته الثلاث.
(٢) الأثر رقم ١٣٤٦٢ من التفسير.