ومعاملتهما بالحسن ، أن المعاملة بالإحسان هى المعاملة بالفضل ، والإحسان ضد الإساءة ، وأما المعاملة بالحسن ، فالحسن ضد القبح ، ومعاملة الحسن هى التى توصف بأنها المعاملة الكريمة. وفى قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥) (الأحقاف) أن هذه المعاملة ليست مجرد وصية ، وإنما هى مترتبات على كرم الوالدين مع ابنهما ، فالأم حملته قسرا عنها ، ووضعته برغمها ، ونما فى بطنها وعانت ثقله وإطعامه ، وانزعج نومها به واضطرب ، وشكت أوجاعا بسببه لم تعرفها من قبل ، وانشقّت نفسها نفسين فى ولادته ، وانفصل عنها جسما مستقلا عن جسمها ، ثم تعهدته ، وأرضعته ، ونظّفته ، وعلّمته الكلام ، وحمته من الأغيار ، ومن الظروف حولها ، والآية تسمّى ذلك حملا وفصالا ، والفصال هو الانفصال ، وإنما رعاية الأم لا تتوقف أبدا ، وحماية الوالد لابنهما لا تنتهى ، فإذا نضج الابن وبلغ أشدّه ، أى رشده ، لم تنقطع رعايتهما مع ذلك ، وينضج عقليا وانفعاليا فيبلغ الأربعين وما يزال يحتاج إليهما ، فلا عجب أن يسأله الله أن يظل يشكر نعمه تعالى عليه ، وعلى والديه ، أن مكّنهما من تربيته ، وأن يسأله الصلاح الذى يرضاه ، وهو أن يرحم والديه فى شيخوختيهما ، كما رحماه صغيرا ، ولقد رأى كيف يكون الأبوان معه ، وهو الآن أب مثلهما ، فيسأل ربّه أن ينبت أولاده صالحين برعايته ، كما أنبته صالحا برعاية والديه. ولعل أمثل وأكمل الآيات فى معاملة الوالدين هى الآيات : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥) (الإسراء). والقضاء فى السورة ليس قضاء حكم ، ولكنه قضاء أمر ، وقضى بمعنى وصىّ ، والوصية واجبة ، وفى الحديث عند ما سأله أحدهم : أىّ العمل أحبّ إلى الله عزوجل؟ قال «الصلاة على وقتها» ، فسأله : ثم أىّ؟ قال : «ثم برّ الوالدين» فسأله : ثم أى؟ قال : «الجهاد فى سبيل الله» أخرجه البخارى ، فجعل برّ الوالدين بعد الصلاة التى هى أعظم أركان الإسلام ، وقبل الجهاد الذى هو أعظم مدافعة عن الإسلام ، وجعل بين ذلك «ثم» التى تعطى الترتيب والمهلة ، فبرّ الوالدين عبادة مستمرة كالصلاة ، وهو أيضا جهاد موقوت كالجهاد ، ونقيض البرّ العقوق ، أى المخالفة ، وإذن فالبرّ هو الموافقة ، ومن برّهما ألّا تتعرّض لسبّهما ، فذلك من الكبائر ، ففي الحديث فى صحيح