الباب التاسع
فى أسباب نزول آيات القرآن
الآيات فى القرآن بعضها ليس له سبب خاص مرتبط به فى نزوله ، وبعضها له أسبابه. والمراجع فى أسباب النزول كثيرة أفردها مشايخ أجلاء بعلم خاص ، سمّوه «علم أسباب النزول» ، ومن هؤلاء البخارى ، والمدينى ، والواحدى ، والجعبرى ، وابن حجر ، والسيوطى ، وكثيرون غيرهم.
وكان النبى صلىاللهعليهوسلم توجّه إليه الكثير من الأسئلة ، كما كانت تقع أحداث تتصل بالدعوة وسيرها ، وأحوال المسلمين والتشريع لهم ، وكانت تشكل وقتها أسبابا للنزول ، وعن ذلك تتنزل الآيات فى أعقابها ، أو تتأخر لفترة من الفترات. ومن أسباب النزول قد يحيط المسلم بالحكمة من الآية ، وما بها من أحكام ، فيزداد اقتناعه ، ويتلاشى شكه ، ويترسّخ إيمانه. وتلقى الأسباب أضواء على الآية ، فيزداد الفهم لما تتضمنه. والمثل على ذلك أن عروة بن الزبير لما قرأ الآية : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨) (البقرة) ، تحصّلت له القناعة أنه لا جناح على من لا يطوّف بهما ، فصحّحت له خالته أم المؤمنين عائشة فهمه : أنه لا جناح على من يطّوف بهما ـ وهما اللذان كان يطوّف بهما الكفار فى الجاهلية ، فهذا هو الذى لا جناح فيه ، وأمّا الطواف بهما فهو فرض فى الإسلام ، وروت له عمّا كان فى الجاهلية وعمّا فعله الإسلام ، وتحرّج المسلمين أن يطّوفوا بهما فكان نزول الآية لتزيل هذا الحرج ، وتفرض هذا الطواف ، ولو لا أن عائشة روت له عن الأسباب ما كان قد فهم ، ولسلك فى الحج على مقدار فهمه هذا المنقوص.
ثم إن الإحاطة بأسباب الأحكام ـ كحكم الظهار ، لا يجعلها قاصرة على أصحاب الحكم وحدهم ، وهما هنا خولة وزوجها أوس بن الصامت. وأحيانا لا يخرج حكم الآية عن سبب النزول ، وفى معرفة شخوص الواقعة أو الحكم رفع للظلم عن آخرين قد يتهمون عن غير حق ، وفعلت ذلك عائشة لما اتّهم مروان أخاها عبد الرحمن ، أنه الذى نزلت فيه الآية : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧) (الأحقاف) ، فردّت عليه وقالت : والله ما هو به! ولو شئت أن أسميه لسمّيته! وعائشة ثقة ، وأسباب النزول لا ينبغى أن تؤخذ إلا عن ثقة شاهد التنزيل ، ووقف على الأسباب. ويكون التعبير