فى ذلك ، وكيف أن المال والمنصب والجاه والسلطان قد زالوا جميعا ، وانصرف عنهم الأحياء والأنباء ، والأزواج والأبناء والإخوة والخلّان ، ولم يبق لهم إلا صالح الأعمال ، وأما أجسادهم التى كانت مثلا فى القوة والجلاد ، ووجوههم التى كانت علامات فى الحسن والجمال ، وألسنتهم التى كانت آيات فى البلاغة والبيان ، فكل ذلك أكله الدود وأبلاه التراب ، وهكذا سيكون الزائر ، ويكون مآله ، فإذا قدّر الأمور هكذا فربما يعتبر ، وتزول عنه أغيار الدنيا فيزهد فيها ، ويقبل على طاعة الله. ومن التذكير بالموت فى الحال والمآل قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (التوبة ٨٤) ، والآية نصّ فى عدم الصلاة على الميت : الفاسق ، أو الكافر ، أو المنافق ، وعدم القيام على القبور إلا للمؤمنين ، للاستغفار لهم ، وهو من أكبر القربات فى حقّهم ، وشرع لهم ، وفى الرواية أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا فرغ من دفن الميت ، وقف على قبره وقال : «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل» أخرجه أبو داود ، وكان يزور قبور أصحابه ويسلّم عليهم كلما ألمّ به المرض واشتدت به العلّة ، وكان يقول لهم : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» ، أو يقول : «السلام عليكم أهل القبور ـ ، من كان منكم من المسلمين والمؤمنين. أنتم فرط لنا ، وإنّا بكم لاحقون ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم». وفى الحديث عن زائر القبور : «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتنى مكانه» ، يقول ذلك لحزنه على الدين الذى ذهب ، وغلبة الفلسفات الباطلة وكثرة الداعين لها ، وظهور الاستبداد والطغيان ، والعمالة للأجنبى ، وفساد نظم الحكم ، وسيادة اليهود والدول الإمبريالية ، وسحقها للقومية والوطنية ، ومحاربتها للعقيدة والقيم والمبادئ والأخلاق ، وانتشار العلمانية والإلحاد ، والعولمة ، والليبرالية. وفى الآية : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (فاطر ٢٢) تشبيه لهؤلاء بالموتى فى القبور ، قد سلبوا المدارك والحواس ، وهكذا هؤلاء العلمانيون والليبراليون والعولميون أعداء الإسلام ، صمّوا آذانهم عن الدعوة ، ونأت قلوبهم عن الإيمان ، فلم تعد تنفعهم هداية ، وذلك هو بعض اعتبار زيارة القبور. وأما أن الموتى : يسمعون على الحقيقة وليس على المجاز ، فربما ذلك معنى الآية : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) (فاطر ٢٢) ، فهو تعالى قادر على أن يسمع الموتى من المؤمنين استغفار ذويهم من زائريهم ، وهو قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (الأنعام ١٢٢) ، وقوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) (هود ٢٤) ، فالمؤمن ـ كما قيل ـ بصير سميع ، سواء كان حيا أو كان ميتا ، وله نور يكتنفه