إن أيوب ضربها ضربة واحدة بحزمة الحشيش المبلول ، وكان بها مائة عود ، فاعتبر أنه ضربها مائة جلدة. ولا نصدق أنه ضربها فعلا ، فقد ظلت زوجة له عند ما انصرف الكل من حوله فى مرضه ، واستقذروه حتى أبعدوه عن بلدتهم ، وكانت تعمل بيديها خادمة فى البيوت لتستطيع أن تطعمه. وقيل : إنها فى إحدى المرات لم تجد ما تطعمه به فباعت ذوائبها ـ أى جدائلها ـ نظير رغيفى خبز ، فهل مثل هذه المرأة يمكن أن يضربها زوجها عند ما يشفى بعد ثمانى عشرة سنة من المرض والمعاناة؟! لا نعتقد ذلك ، وتأباه إنسانيتنا ، وتستنكره عقولنا ، وقد أخطأ المفسّرون العرب والمسلمون أيّما خطأ عند ما شنّعوا بهذه التشنيعات ، فاحذر يا أخى المسلم كتب التفسير هذه. ولقد استشعر الوجدان الشعبى حبّ امرأة أيوب لزوجها فنسج الشعراء فيه القصائد ، وروى القصّاصون الحكايات ، وجاء أن اسمها ناعسة ، فصارت «حكاية أيوب وناعسة» من الأدب الشعبى المشهور والمحبوب. والدليل أن أيوب استخدم الضّغث ليضرب نفسه لا زوجته ولم يحنث ، قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤) (ص) ، فكان مثلا فى الاحتمال ، وصار كما يقول القرآن : (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٨٤) (الأنبياء) ، يعنى يذكرونه فى زمنه وفى غير زمنه ، فإذا ذكروا بلاءه وصبره عليه وهو الذى كان أسعد وأحظى أهل زمانه ، تنبّهوا لمداومة عبادة الله واحتمال المضار مثله.
وقيل : إن أحدهم سئل عن عبدين ابتلى أحدهما فصبر ، وأنعم على الآخر فشكر ، فقال إنهما أيوب وسليمان ، وكلاهما سواء ، لأن الله تعالى أثنى عليهما معا : الصابر والشاكر ، فقال فى أيوب : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، وقال فى سليمان : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)! والحمد لله ربّ العالمين.
* * *
٨٠٤. مخاطبات أيوب لربّه من سفر أيوب
اسم «أيوب» اسم قديم لم يبتدعه مؤلفا «سفر أيوب» ، فقد ورد ضمن بعض وثائق فى العمارنة ، وأسلوب أيوب فيه استلهم سفر إرميا ، وألهمت مخاطباته الكثير من الفلاسفة الحكماء العرب وغير العرب ، وموضوعه الخير والشر ، وفيه أن المصائب ليست سوى عقوبات ناتجة عن الآثام ، ونفس هذا الكلام ردّده الحواريون تلاميذ المسيح عند رؤيتهم للأعمى منذ ولادته (يوحنا ٩ / ١). وهذه بعض مخاطبات أيوب لربّه كمثال لأسلوبه ، تقول المخاطبات :