يتساءل : فمن بعد ذلك يمكن أن يكذّبك بالدين يا محمد ، أو يا أيها الإنسان؟ يواسى النبىّ صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين عبر الأزمان ويسليهم ، يقول : استيقن مع ما جاءك من الله ، أنه تعالى أحكم الحاكمين ، قضاء بالحق ، وعدلا بين الخلق. ومع أن «ليس» للنفى ، إلا أنها مع ألف الاستفهام : «أليس» ، يصبح المعنى بالإيجاب ، يعنى هو أحكم الحاكمين فعلا. وقيل : إن «فما يكذّبك بعد بالدّين» مجرد نفى لأن يستطيع أحد تكذيبه فى القول بالبعث والحساب ، وقيل : إن هذه الآية نسخت بآية السيف ـ هكذا أطلقوا عليها ، وهى التى تقول (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٥) (التوبة) ، غير أن آية التكذيب لها معناها ومجالها ، وآية القتال لها أيضا معناها ومجالها ، ولا تنسخ إحداهما الأخرى.
* * *
٦٧٨. سورة العلق
وهى أيضا سورة «اقرأ» ، قيل آياتها الخمس الأولى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) ، وهى أول ما نزل من القرآن فى مكة على النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، وأول أمر إلهى يصدر للنبىّ صلىاللهعليهوسلم ، بأن يذكر التسمية فى ابتداء كل سورة ؛ وأول علم لدنىّ يتعلّمه من السماء ؛ وأول إعلان عالمى يصدر إلى بنى البشر يأمر يمحو أمّيتهم ، ويأمر بأن يتعلموا المسلم القراءة والكتابة ؛ وأول بلاغ يدحض كذب المدّعين من اليهود والنصارى بأن الإنسان لا يعدو أن يكون حيوانا كقول أرسطو مثلا أو دارون. ولقد رفض إبليس أن يطيع أمر الله بأن يسجد لآدم ، لبديع صنعه تعالى فيه ، بدعوى أن آدم من تراب ، والتراب أخسّ العناصر ، فيكون آدم وبنوه أخسّ المخلوقات! والسورة تردّ على إبليس صاحب هذه الدعوى وعلى العلماء من حزبه ، وهى أول بلاغ علمى بأن الإنسان مخلوق من حيوان منوى (علقة) ، وما كان الناس أيام رسول الله صلىاللهعليهوسلم (القرن السادس الميلادى) يعرفون هذه الحقيقة ، وما كانوا يبصرونها أصلا ، وما علموا بها إلا بعد اختراع الميكروسكوب فى القرن التاسع عشر ، وهذا الإعلان الذى تضمنته السورة هو أول إعجاز علمى يطرحه القرآن ، وكأنه يعلن على البشرية أن الكتب السماوية قبله كانت أساطير بسبب تحريفها ، وأن هذا الكتاب ، أى القرآن ، ابتداء من هذه السورة ، سيكون كتابا للعلوم لسائر العصور ، ولكل الأزمان. وهذه الآيات الخمس الأولى تؤسّس لعلم الحضارة ، وتقيمه على القراءة والكتابة والعلوم ، وبهذه النعم الثلاث يكون الله تعالى بكرمه وإحسانه ، قد أكرم الإنسان كل الكرم ، وأخرجه من حالة الخسّة إل حالة الرفعة ، وهو ما حسده عليه إبليس ، وهذه الرفعة فى الإنسان هى ما استوجب أن تسجد له