أرساها بالجبال لتتوازن فلا تضطرب ، وخلق كل شىء أزواجا ، حتى الصفات زاوج بينها ، والكلام والمنطق جعله جدلا فيه الفرض والنقيض ، وخلق الإنسان والحيوان والنبات ، فيه القصير والطويل ، والقبيح والحسن ... إلخ ، لتختلف الأحوال فيكون الاعتبار ، ويشكر الفاضل ويبصر المفضول. ومن أدلته «النوم» جعله راحة للأبدان ، وجعل الليل سكنا ، والنهار معاشا ، وبنى السماء سبعا طباقا ، وجعل فيها الشمس سراجا ، وأنزل الماء سيّالا من السحاب ، فأخرج به الحبّ كالحنطة وغيرها ، وأنبت به الأعشاب للحيوان ، وسقى الزروع والجنّات حتى تكاثف شجرها والتف ، أفبعد ذلك يشك فى قدرته تعالى على البعث يوم النشور؟ وتأتى الآيات فى ذلك بديعة فى تركيبها اللغوى ، فيها التشبيه كقوله : (الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨) ، وفيها المقابلة كما فى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً). فإذا نفخ فى الصور جمع الأولون والآخرون واحتشدوا فى موضع العرض ، يأتون زمرا ، ويحشرون أشتاتا ، وتنشق السماء ، وتكشط الجبال ، وتسيّر من مكانها وتقلع ، وتعود كالسراب يظنه الرائى ماء وليس بماء ، أو تستحيل كالهباء المنثور ، وتترصّد جهنم للطاغين المجرمين ، وتترقّبهم يئوبون إليها ، فيمكثون بها الأحقاب بعد الأحقاب ، لا برد فيها يخفّف حرّها ، ولا شراب إلا من ماء يغلى ويشوى ، وصديد يكوى ، فكان جزاؤهم هو الجزاء الوفاق ، فما كانوا يرجون بعثا ولا حسابا ، وكذّبوا فما أنصفوا ، وكل ما فعلوه مكتوب ومرصود : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) ، قيل : ليس فى القرآن عن أهل النار آية هى أشد من هذه الآية ، كلما استغاثوا بنوع من العذاب أغيثوا بأشد منه. وفى مقابل هذه المشاهد المفزعة ، هناك المشاهد الأخرى المفرحة لما يوعد به المتّقون ، فلقد وعدوا النجاة وذلك هو الفوز العظيم ، ولهم الجنة حدائق وأعنابا ، وكواعب أترابا ، والكاعب هى الناهد ، والأتراب هن العذارى فى السن المتقاربة ، ولهم فيها الخمر : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧) (الصافات) ، وفى الجنة لا يسمعون لغوا أى باطلا ، ولا كذّابا ، أى كذبا ، جزاء من ربّك حسابا ، أى يعطيهم حتى يقولوا حسبنا. وهو القادر على ذلك ، لأنه ربّ السموات والأرض وما بينهما ، شملت رحمته كل شىء مع أنه سبحانه يرهبه كل من يحضره ، ويصطف الملائكة وجبريل على رأسهم خاشعين أمامه ، لا يتكلمون بالشفاعة إلا من يأذن له وينطق الصواب ، فإذا كان هذا هو منتهى حال الملائكة فى حضرته سبحانه ، فكيف بالبشر الخطاة؟ ولسوف يمثلون أمامه ، فهذا حق ، ويوم الفصل حق ، والبعث حق ، والسورة تذكّر من لم يعد يذّكر ، لعله يتخذ لنفسه سبيلا إلى ربّه ، ويحسب حساب هذا اليوم الذى يرى فيه كلّ ما قدّم من خير