الأحقاف ، وتبدأ مثل الأحقاف بقوله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢) ، تنوّه بالقرآن أنه من عند الله تعالى ، وأنه ينبّه ثلاثة أصناف من الناس إلى آيات الله فى الكون ، وهؤلاء هم : المؤمنون ، والموقنون ، والعاقلون ؛ فالأولون : تلفتهم إلى آياته فى السموات والأرض ؛ والثانون : تلفتهم إلى آياته فى أنفسهم ، وكيف خلقوا ، وفى الكائنات كلها وكيف صنعها وأبدعها ؛ والصنف الثالث : تلفتهم إلى خلقه تعالى للزمان ، وكيف جعل منه الليل والنهار ، وإلى المطر وكيف أنزله من السماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وإلى الرياح وكيف يصرّفها ويغيّرها ويبدّلها ، فلمّا آمنوا به لتفكرهم فى آياته فى السماء والأرض ، كان تفكّرهم فى أنفسهم وفى الكائنات ، فأيقنوا بعد الإيمان ، فلما أيقنوا عقلوا ظواهر الكون الأخرى ، وفهموها ، ووعوا الدروس عنها. وهذه الآيات يتلوها القرآن بالحق ، فبأى حديث بعد القرآن ليقنعهم ليصدّقوا ويؤمنوا ويوقنوا ويعقلوا؟ وبعد القرآن لا حديث ولا برهان ، وكل من لا يقتنع بالقرآن فهو الأفّاك المنتحل للأعذار ، والأثيم هو المرتكب للإثم أى الذنب الكبير ، ومثله له العذاب الأليم فى الآخرة. ومصيبة هذا الأفاك أنه لا يقنع بالقرآن وكفى ، وإنما هو يستهزئ به ، فيتحول عذابه من العذاب الأليم إلى العذاب المهين ـ أى الذى يحط من شأنه ، ويهان به كما أهان القرآن ، وسواء هذا أو ذاك فمن ورائهم جهنم ، لا يغنى عنهم عذابها ما كسبوا من مال ، أو ما كان لهم من خدم وحشم وأتباع وأنصار وأولياء ، ولهم جميعا فى جهنم العذاب العظيم ، وهو عظيم لأنه يناسب عظمة إثمهم ، وحجم جرمهم ، وما كان لهم من قوة وسلطان. وهذا القرآن الذى لم يؤمنوا به ، واستهزءوا به ، هدى ونور ، ونجاة وغوث ، ومن يكفر به وبآياته لهم عذاب رجز أليم ، أى أبشع العذاب ، فهذه أربعة أنواع من العذاب ، لكل منهم شدّته ومناسبته وناسه وجرمه. وتعود الآيات إلى مشهد آخر من مشاهد تعداد آيات الكون تنبّه إليها آيات الكتاب ، فالبحر تجرى فيه الفلك بأمره تعالى ، سخّره للناس ، ويأكلون منه لحما طريا ، ويستخرجون حلية لهم من اللآلئ والأصداف لعلهم يشكرون ؛ والسماء سخّرها لهم ، وسخّر ما فى الأرض جميعا ، لعلهم يتفكّرون ، وفى قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) إعجاز علمى لا شك فيه ، لم يكن مفهوما قديما كما فى هذه الأيام التى فيها الطيران ومحطات الفضاء ، ودراسات النجوم والكواكب والشمس والقمر ، والاستفادة بالفضاء أكبر الفائدة فى المواصلات الفضائية واللاسلكية. والذى خلق ويسّر وسخّر وعلّم وأفاد بكل هذا هو الله ، أفبعد ذلك يكفرون؟ فإن عذّبهم فإنما بما كسبوا ، ومن عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساء فعليها.