الإدراك لا يستلزم نفى الرؤية ، لإمكان رؤية الشيء من غير إدراكه ، أى من غير الإحاطة بحقيقته. وقوله لموسى «لن ترانى» يعنى فى الدنيا. وعاب المثبتون على المنكرين شروطهم العقلية للرؤية ، كالنظر المخصوص ، والمقابلة المخصوصة ، واتصال الأشعة ، وزوال الموانع كالبعد والحجب. ولا يشترط أهل السنة شيئا من ذلك سوى وجود المرئى ، ويقولون : إن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائى فيرى المرئى ، بدليل الأحاديث مثل : «ستعرضون على ربّكم فترونه» ، ومثل : «إنكم سترون ربّكم عيانا» ، ومثل : «وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه». وأمثال هذه الأحاديث قالها النبىّ صلىاللهعليهوسلم يخاطب بها العرب بما تفهم ، ويخرج لها بها الأشياء المعنوية إلى الحسّ ، ليقرّب تناولهم لها ، فعبّر مثلا عن زوال الموانع عن الرؤية ورفعها عن الأبصار برفع الحجاب من على الوجه. والعرب كانوا يستعملون الاستعارة كثيرا ، وهى من أرفع أدواتهم فى الفصاحة والإيجاز ، ومخاطبة الرسول صلىاللهعليهوسلم للناس بهذه الأحاديث من هذا المعنى ، ومن لم يفهم ذلك تاه ، ومن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم ، ومن لم يتضح له أن الله منزه عن الذى يقتضيه ظاهر الأحاديث ، إما أن يكذّب نقلتها ، وإما أن يؤوّلها ، كأن يقول عن رداء الكبرياء كحجاب ، أنه استعارة لضعف إدراك أبصار البشر عن رؤيته تعالى ، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته وموانع عظمته. والمراد بالوجه : الذات ، والمراد بالرداء : صفة من صفات الذات المنزّهة له تعالى عما يشبه المخلوقات. وقيل : تأويل الرداء أنه الآفة الموجودة لأبصار المؤمنين تمنعهم من رؤيته فيزيلها الله تعالى ، وإزالتها فعل من أفعاله يفعله فى محل رؤيتهم ، فطالما ذلك المانع موجود لا يرونه ، فإذا فعل الرؤية زال ذلك المانع.
* * *
٣٦٤. رؤية الله بالقلب أو بالإيمان؟
قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (١٠٣) (الأنعام) والإدراك إحاطة ، وأساسه الرؤية ، والله تعالى لا يرى فى الدنيا ، لأنه تعالى باق ، والباقى لا يرى بالفانى ، فإذا كانت الآخرة ورزق المؤمنون أبصارا باقية رأوا الباقى بالباقى ، فذلك جائز عقلا ولذلك كانت الآية : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) (المطففين) فالمراد الكفار يحجبون عن الله ، يعنى عن رؤيته ، بدليل قوله تعالى فى الآية الأخرى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) (القيامة) ، وهؤلاء هم المؤمنون ينظرون الله فى الآخرة مكافأة لهم. واستحالة الرؤية لله تعالى فى الدنيا من حيث القدرة ، فإذا أقدر الله من شاء من عباده عليها فى الآخرة لم