وإزاء بطلان هاتين الروايتين نزع الوشاة الحاقدون من أهل الكتاب والمشركين ، ومن بعدهم المستشرقون من اليهود والنصارى ، ومن المسلمين أنفسهم أصحاب الدعوات العلمانية الليبرالية ، إلى رواية يطعنون بها زواج النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، ويصنعون منه ومن خديجة قصة ، أظهروا فيها النبىّ صلىاللهعليهوسلم مخادعا يدبّر الزواج من أرملة ثرية ، وصوّروا خديجة امرأة تبحث عن المتعة لدى شاب يصغرها سنا. وقالوا : إن عمّ خديجة عمرو بن أسد الذى زوّجها ، كان يومئذ شيخا كبيرا لا يدرى ، ولم يكن له أولاد يدفعون عنه ، وأن خديجة ومحمد صلىاللهعليهوسلم خدعاه ، وأحضراه العرس وهو لا يفهم ولا يعى!! ... هكذا!!!
فذلك ما افتأتوا به على النبىّ صلىاللهعليهوسلم وعلى خديجة فى زواجهما ، وردّده من قريب ذلك المستشرق اليهودى رودنسون ، وتقرر كتابه فى الجامعة الأمريكية باسم حرية البحث ، ووزّعت منشورات عن ذلك فى مصر يتقوّلون فيها نفس المقالة ، وما كانت سيرة النبىّ صلىاللهعليهوسلم إلا امتثال القرآن ، ولو فرضنا ما افترضوا أن القرآن من وضعه ، فلا بد أن يكون نتاج طبعه الجبلّى ، وقد تصوّره بسجيته وخلقه كما تعلمنا فى علم النفس وفى التحليل النفسى ، وليس فى القرآن إلا الحقّ والخير والجمال والعدل ، وهو حىّ يشهد له لا عليه ، وجميعه مواقف ، ومن دأبها أن تكشف عن باطن أصحابها ، ومكنون صدورهم ، والمكبوت من مشاعرهم وأحاسيسهم ، والدفين من مواجيدهم ، وما تكشّف من مواقف القرآن من شخصية الرسول صلىاللهعليهوسلم هو الحياء الشديد وكريم المحتد ، والحلم والصفح ، والشجاعة ، وميله الغالب إلى المسالمة والسلام ، ويشهد له المحيطون به والذين عملوا معه ، فما قال لأنس بن مالك ، خلال عشر سنوات خدمه فيها : أفّ قط ؛ ولا قال لشىء فعله لم فعلته؟ ولا لشىء لم يفعله ألا تفعله؟ وشهدت زوجاته أنه ما شتم إحداهن يوما ، ولا لعنها ، ولا ضربها ، وما ضرب خادما ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قطّ ، إلا أن يجاهد فى سبيل الله ، ولا خيّر بين شيئين إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما ، إلا أن يكون إثما ، ولا انتقم من شىء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله.
وأما خديجة : فكانت امرأة حازمة ، وجلدة ، وشريفة ، فلما تزوجته كان اختيارها صائبا ، ودللت على رجاحة عقل ، ووعت عنه طبعه وميوله ، واكتشفت أنه ينشد الوحدة أحيانا ، ويروم التأمل ، فهيأت له أسباب ذلك ، وكانت تعدّه لرحلته إلى حراء يتحنّث فيه الليالى ، وكان نزول الوحى عليه حدثا وأى حدث ، فخشى أن يكون قد أصيب فى عقله وتشتتت نفسه ، فطمأنته ، لعلمها عنه ، وقالت مقالتها الشهيرة : إن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله! إنك تصدق الحديث ، وتؤدى الأمانة ، وتصل الرحم. ـ ولما اضطهده أهل مكة ،