عليه انصرفوا إلى أشياء أخرى تشغل عن هذه المعانى وإحالاتها على الواقع ، كاهتمامهم بمباحث الإعراب أو غيره ، مما يحجب مضمون ومقاصد القرآن الحقيقية. وانتقد الشيخ رشيد انغماس الصحابة فى الإخبار عن القصص مما توحى به مجريات الآيات ، وهو ما كان يرويه أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وجمع منها السيوطى فى كتابه «الدّر المنثور» ست صفحات من القطع الكبير ، ليس منها شىء تصحّ عليه التسمية أنه من الدّر. فمثلا ذكر فى تفسير الآية : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) (١٦٠) (الأعراف) : أن كتب التفسير تروى أن موسى كان يحتفظ معه بحجر كان يضرب به الأرض فتنفجر العيون ، فقال رشيد : إن ذلك كان من الخرافات التى اختلقها وهب ، وليس لها أصل عند المسلمين ولا عند اليهود. وقال فى تفسير الآية : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) (١٢٤) (البقرة) : أن المفسرين لم يألوا فى تفسير هذه الكلمات التى أتمها إبراهيم والخبط فى تعيينها ، وقال ابن عباس : إنها ثلاثون خصلة من خصال الإسلام ؛ وقال آخرون : إنها مناسك الحج ؛ وقال آخرون : هى خصال الفطرة العشر ؛ وقال رشيد : إن الأولى الأخذ بما أخبر الله كما هو ، ولا ينبغى تعيين المراد. ومنهج الشيخ رشيد فى التفسير عقلانى ، حتى أنه لينكر الإسرائيليات ، والكثير من القصص ، كقصص الجسّاسة ، والدجّال ، ونزول عيسى ، وأحاديث الفتن ، وأشراط الساعة. ولجأ فى تفسير الآيات المتعلّقة بالبقرة ، مثل : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣) (البقرة) إلى المجاز ، فقال : إن الإحياء معناه يحييها بالشريعة ، كقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (٣٢) (المائدة) ، وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١٧٩) (البقرة) ، فالإحياء هنا ليس إحياء حقيقيا بعد موت تسلب فيه الروح ، ولكنه إحياء حكمى ، بمعنى الاستبقاء ، ولذلك قال بعد ذلك : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) (٧٣) (البقرة) ، يعنى بما يفصل بها فى الخصومات ، ويزيل أسباب الفتن والعداوات ، كما فى الآية : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (١٠٥) (النساء) ، فالغرض إذن من قصة كقصة البقرة : هو ضرب المثل الحسّى للإحياء المعنوى بالشريعة ، وقصص القرآن على ذلك إنما لتقريب المعانى وتصويرها تصويرا يقرّبها إلى الأفهام.
* * *
١٣٥. القشيرى والتفسير الصوفى للقرآن
يعدّ كتاب «لطائف الإشارات» من أروع الكتب فى التفسير الصوفى للقرآن ، وصاحبه عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة ، ولقبه زين الإسلام ، وشهرته القشيرى ، المولود