على قدر الجسد. وجاء الهدهد بالعذر ولكنه مع ذلك مكث غير بعيد عن سليمان ، وقال له : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) (النمل) ، وقوله ردّ على من يقول إن الأنبياء يعلمون الغيب ، ولا يعتدّ بأنه مقالة طير ، فمنطق الهدهد كان منطق الحال. ثم أفضى لسليمان بما أحاط به من أمر المرأة التى تملك شعبها ، وقد أوتيت من كل شىء ، ولها عرش عظيم ، وأنها وشعبها يسجدون للشمس. والقصة رمزية ، لأن الهدهد تعجّب من تعبّدهم لغير الله ، واستعظم أن يسجدوا لغيره ، وهو الذى يعلم غيب السموات والأرض ، ويعلم ما يعلنون وما يخفون. ولم يسارع سليمان بتصديقه ولا تكذيبه وإنما قال : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٧) (النمل) ، وهو دليل على أن الحاكم والقاضى لا يجب عليهما أن يقبلا عذر الناس ويدرءا العقوبة عنهم فى ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم. وكتب سليمان كتابا ، وأمره أن يحمله الهدهد إلى قوم هذه المرأة ، فيلقيه إليهم ـ وهم أهل هذا الدين الآبق الذين يعبدون الشمس ، وأبدى الغيرة على دينه ، وبنى الخطاب فى الكتاب على لفظ الجمع ، وهكذا حمل الهدهد الكتاب إلى أن ألقاه على الملكة ، وتناولته فراعها ، ونظرت من أحضره فرأت الهدهد ، فتولى عنها حين أبصرته كما أمره سليمان ، وظل مع ذلك قريبا ليرى مراجعتهم للكتاب. ونفهم أن الداعية إلى الله له أن يستخدم كل الطرق لإبلاغ الدعوة ، وأن له أن يرسل الكتب إلى الأعداء ، كما أرسل النبىّ صلىاللهعليهوسلم إلى كسرى وقيصر. وقول الهدهد : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) (النمل) عبارة موجزة جمعت كل أخبار يمكن أن يجمعها جاسوس عن بلد عدوه : أحواله فى السياسة والحكم ، وفى المال والاقتصاد ، وفى الفنون والعلوم ، والآية تنبئ أن هذه المملكة راسخة الملك ، عظيمة الشأن ، وطيدة الأركان. وهنا ينتهى دور الهدهد ، ولا ينتهى دور المواعظ فى هذه القصة الرائعة : قصة الهدهد وسليمان. (انظر أيضا قصة ملكة سبأ مع سليمان ، وقصة النملة مع سليمان)
* * *
٨٨٦. قصة هارون وماروت
كلام المستشرقين فى هذه القصة كثير ، ويفترضون أن محمدا صلىاللهعليهوسلم قد اقتبسها من المدراش اليهودى ، وأنه كان يقرأ العبرية والسريانية ، وأنه فى كتابىّ إينوخ وباروخ شىء من تلك القصة فى سقوط الملائكة ، ولم أجد فى أى من هذه الكتب شيئا من هذا الذى ادّعاه فينسنك. واسم هاروت : قيل من هرت ، أى تكلم بالقبيح ولم يحفظ سرا وأكثر من الكلام ؛ وماروت : من مرت ، فهو المضطرب الأحوال ، المشتّت الذهن ، الممزّق النفس. وأن يأتى الاسمان على نسق واحد ، منه فى القرآن : طالوت وجالوت ، ويأجوج ومأجوج.