وقد يقال : العبرة في أمثاله بعمومه كما ذهب إليه ثلّة من السلف. فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل أنهم قالوا : الإحصار من عدوّ أو مرض أو كسر. وقال الثوريّ : الإحصار من كل شيء آذاه.
وثبت في (الصحيحين) (١) عن عائشة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت : يا رسول الله! إني أريد الحجّ وأنا شاكية. فقال : حجّي واشترطي أن محلي حيث حبستني. ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله.
ومن دلالة الآية ما قاله الراغب : إن ظاهرها يقتضي أن لا قضاء على المحصر لأنه قال (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) واقتصر عليه.
(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي : الموضع الذي يحلّ فيه نحره ، وهو مكانه الذي يستقرّ فيه. يعني موضع الإحصار. وبلوغه إياه كناية عن ذبحه فيه ، واستعمال بلوغ الشيء محله في وصوله إلى ما يقصد منه ـ شائع. ولمّا اعتمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه عام الحديبية ، وحصرهم كفّار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم بها ولم يبعثوا به إلى الحرم.
وقد ساق الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) بعض ما في قصة الحديبية من القواعد الفقهية في فصل قال فيه : ومنها أنّ المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم ، وأنّه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه ، وأنّه لا يتحلل حتى يصل إلى محله. بدليل قوله تعالى (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥]. ومنها أنّ الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحلّ لا من الحرم ، لأنّ الحرم كله محل الهدي.
وقال الإمام مالك في «الموطأ» (٢) : من حبس بعدوّ فحال بينه وبين البيت ، فإنه يحلّ من كل شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء.
قال (٣) : فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدوّ كما أحصر النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه.
__________________
(١) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ١٥ ـ باب الأكفاء في الدين.
ومسلم في : الحج ، حديث ١٠٤ و ١٠٥.
(٢) أخرجه في الموطأ في : الحج ، حديث ٩٨.
(٣) أخرجه في الموطأ في : الحج ، حديث ٩٩.