القول في تأويل قوله تعالى :
(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤)
وقوله تعالى :
(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) إيذان بأنّ مراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته ، وإنّ من هتكها اقتصّ منه ؛ فهتك حرمته بهتكهم حرمته. فكما يقاتلون عند المسجد الحرام ـ إذا قاتلوا فيه ـ يقاتلون في الشهر الحرام إذا قاتلوا فيه.
وقد روى الإمام أحمد (١) بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يغزو في الشهر الحرام إلّا أن يغزى ـ أو يغزوا ـ فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ. ولهذا ، لمّا سار صلىاللهعليهوسلم في ذي القعدة ، سنة ست معتمرا ، وخيّم بالحديبية ، وبلغه أنّ عثمان قتل ـ وكان بعثه في رسالة إلى المشركين ـ بايع أصحابه ـ وكانوا ألفا وأربعمائة ـ تحت الشجرة على قتال المشركين. فلما بلغه أنّ عثمان لم يقتل كفّ عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصّن فلّهم بالطائف عدل إليها فحاصرها ، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق. واستمرّ عليها إلى كمال أربعين يوما. كما ثبت في (الصحيحين) عن أنس. فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ، ولم تفتح ، ثم كرّ راجعا إلى مكة. واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين. وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضا عام ثمان.
(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي : متساوية ، فلا يفضل شهر حرام على آخر. بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونه ، على أنا لا نهتك حرمة الشهر والمسجد الحرام والحرم ، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدها ـ قاله المهايميّ.
و (الحرمات) جمع حرمة. وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك. و (القصاص) : المساواة. والكلام على حذف المضاف. أي : ذوات قصاص. أو المصدر بمعنى المفعول أي مقاصة ، أو الحمل بطريق المبالغة. (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أمر بالعدل حتى في المشركين ، كما قال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ
__________________
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٣٣٤.