ويطلب الأقوى. فإذا رأى دليلا أقوى من غيره ، ولم ير ما يعارضه ، عمل به ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئا معذورا ، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه ، وخطؤه مغفور له ، وذلك الباطن هو الحكم ، لكن بشرط القدرة على معرفته ، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه ، فإذا أريد بالخطإ الإثم ، فليس المجتهد بمخطئ ، بل كل مجتهد مصيب ، مطيع لله ، فاعل ما أمره الله به ، وإذا أريد له عدم العلم بالحق في نفس الأمر ، فالمصيب واحد ، وله أجران. كما في المجتهدين في جهة الكعبة ، إذا صلوا إلى أربع جهات ، فالذي أصاب الكعبة واحد ، وله أجران لاجتهاده وعمله ، كان أكمل من غيره ، والمؤمن (١) القوىّ أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، ومن زاده الله علما وعملا زاده الله أجرا بما زاده من العلم والعمل ، قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام : ٨٣]. قال مالك عن زيد بن أسلم : بالعلم ، وكذلك قال في قصة يوسف : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦]. وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم ، واتبعوا العلم ، وأن الفقه من أجلّ العلوم ، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن ، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر ، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر ، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر ، كما قال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٨ ـ ٧٩]. وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال ، في الأصول والفروع.
ثم قال : وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى ، كما في مسائل الأحكام. ولم يستوعب الحقّ إلا من اتبع المهاجرين والأنصار ، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه ، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون ـ انتهى.
__________________
(١) أخرجه مسلم في : كتاب القدر ، حديث ٣٤ ونصه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «المؤمن القويّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله. ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا. ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل. فإن (لو) تفتح عمل الشيطان».