عَظِيمٌ) ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود والنصارى في افتراقهم مذاهب ، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى ، وطاعة النفس ، والحسد ، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض ، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه ، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة ، المبينة للحق ، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة ، وهي كلمة الحق. فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة ، وإلى أعقابهم تبعا. وفي قوله تعالى : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين ، والتشديد في تهديد المشبهين بهم ، مالا يخفى.
تنبيهات :
الأول : ذكر الفخر الرازيّ من وجوه قوله تعالى : (اخْتَلَفُوا) أي بأن صار كل واحد منهم يدّعي أنه على الحق ، وأن صاحبه على الباطل. ثم قال : وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة ، فنسأل الله العفو والرحمة ـ انتهى كلامه ـ وقوله (هذا الزمان) إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف ، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل ، وما أداه إليه اجتهادهم ، ولم يضلل بعضهم بعضا ، ولم يدّع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ وأن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب ، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد تفرق أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في البلاد ، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهم على وحدتهم وتناصرهم.
الثاني : قال القاشانيّ : يعني ب «الآيات» الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة ، واتفاق الكلمة ، فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة ، وأهواء متفرقة ، وعادات وسيرا متفاوتة ، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم ، ويترتب على ذلك فهوم متباينة ، وأخلاق متعادية ، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام ، تتحد عقائدهم وسرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته ، كانوا مهملين متفرقين ، فرائس للشيطان ، كشريدة الغنم ، تكون للذئب. ولهذا قال أمير المؤمنين عليهالسلام : لا بد للناس من إمام ، بر أو فاجر. ولم يرسل نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم رجلين فصاعدا لشأن ، إلا وأمّر أحدهما على الآخر ، وأمر الآخر بطاعته ومتابعته ، ليتحد الأمر ، وينتظم ، وإلا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدين والدنيا ، واختل