أثبت تعالى حقّ المراجعة بعد المفارقة مرتين ، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب. فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف. وإن كان الأصلح له تسريحها سرّحها على أحسن الوجوه. وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده.
(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) ، ـ أي : أيها المطلّقون ـ (أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ـ من المهر وغيره ـ (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي : فيما يلزمها من حقوق الزوجية ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، أي : نفسها عن ضرره ؛ أي : لا إثم على الزوج في أخذ ما افتدت به ، ولا عليها في إعطائه. وهذه الآية أصل في الخلع.
وقد ذكر ابن جرير : أنّ هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس وكانت زوجته لا تطيقه بغضا. ففي (صحيح البخاريّ) (١) عن ابن عباس : «أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله! ما أعيب عليه في خلق ولا دين. ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أتردين عليه حديقته؟ قالت : نعم! قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اقبل الحديقة وطلقها تطليقة». وقد بسط طرق هذ الحديث مع أحكام الخلع الإمام ابن كثير في (تفسيره) ، وكذا شمس الدين ابن القيّم في (زاد المعاد) فلتنظر ثمّه.
(تِلْكَ) ـ أي : الأحكام العظيمة المتقدمة للطلاق والرجعة والخلع وغيرها ... ـ (حُدُودَ اللهِ) ـ شرائعه ـ (فَلا تَعْتَدُوها) ـ بالمخالفة والرفض ـ (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، أي : لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه. وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد.
القول في تأويل قوله تعالى :
(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠)
(فَإِنْ طَلَّقَها) ـ أي : بعد التطليقتين ـ (فَلا تَحِلُّ لَهُ) ـ برجعة ولا بنكاح جديد ـ (مِنْ بَعْدُ) ـ أي : من بعد هذا الطلاق ـ (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي :
__________________
(١) أخرجه البخاريّ في : الطلاق ، ١٢ ـ باب الخلع وكيف الطلاق فيه ، حديث ٢١٥٣.