من كلّمته فقد استدعيت كلامه ؛ فكأنه قيل : لا يستدعي كلامهم نحو قوله (لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦].
(وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي : يطهرهم من دنس الذنوب لغضبه عليهم لأنهم كتموا ، وقد علموا ، فاستحقّوا الغضب (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم.
القول في تأويل قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما
أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(١٧٥)
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي : استبدلوا إضلال أنفسهم وغيرهم ـ من الكتمان والتحريف ـ بالاهتداء (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أي : أسبابه بأسبابها. ولما جعل سبحانه أول مأكلهم نارا ، وآخر أمرهم عذابا ، وترجمة حالهم عدم المغفرة ، فكان بذلك أيضا أوسط حالهم نارا ـ سبب عنه التعجيب من أمرهم : بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر ، لالتباسهم بالنار حقيقة أو بموجباتها من غير مبالاة ، فقال (فَما أَصْبَرَهُمْ) ـ أي : ما أشد حبسهم أنفسهم ، أو ما أجرأهم ـ (عَلَى النَّارِ) التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى ـ نقله البقاعيّ ـ.
ثم قال : وإذا جعلته مجازا ، كان مثل قولك لمن عاند السلطان : ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل؟ تهديدا له. تريد أنّه لا يتعرض لذلك إلّا من هو شديد الصبر على العذاب.
وقد روي عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضي اليمن بمكة : اختصم إليّ رجلان من العرب ، فحلف أحدهما على حقّ صاحبه فقال له : ما أصبرك على الله! أي ما أصبرك على عذاب الله. نقله الزمخشريّ.
قال الراغب : وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتبارا بالناظر إليه ، وتصوّر أنّه صابر ، واستعمال لفظ التعجّب في ذلك اعتبارا بالخلق لا بالخالق.
ثم ذكر تعالى السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم بقوله :