(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يؤتون مما رزقناهم من الأموال من شرع لهم إيتاؤه والإنفاق عليه من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم ، على ما بيّن في آيات كثيرة.
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤)
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) والمراد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الكتاب المنزل كله ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي ـ وإن كان بعضه مترقبا ـ تغليبا للموجود على ما لم يوجد. كما أن المراد من قوله (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) الكتب الإلهية السالفة كلها. وهذا كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦] الآية. والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل. فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عزوجل فينزل بها إلى الرسل عليهمالسلام. ولهذا يقال : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، منه بدأ. أي تكلم به حقيقة لا مجازا.
قال الإمام أحمد وغيره : وإليه يعود أي لا يبقى له أثر في الوجود أي هو المتكلم به قال تعالى (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [الأنعام : ١١٤]. وقال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢]. وقال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر : ١].
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الآخرة في الأصل : تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار ، بدليل قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [القصص : ٨٣]. سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا. وقيل للدنيا : دنيا ، لأنها أدنى من الآخرة. وهما من الصفات الغالبة. ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء. إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما ، كأنهما ليسا من الصفات.
والإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وفي تقديم الآخرة وبناء (يُوقِنُونَ) على (هُمْ) تعريض بأهل الكتاب ، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته. كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة ، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة ، فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين!.