أقرب اللغات إلى العربية ، حتى إنها أقرب إليها من لغة بعض العجم إلى بعض.
فبالجملة : نحن ليس غرضنا إقامة الدليل على عدم ذلك ، بل يكفينا أن يقال : هذا غير معلوم وجوده ، بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة. وإذا سمّي هذا توقيفا ، فليسمّى توقيفا ، وحينئذ فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس ، فقد قال ما لا علم به ، وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال.
ثم هؤلاء يقولون : تتميّز الحقيقة من المجاز بالاكتفاء باللفظ ، فإذا دل اللفظ بمجرّده فهو حقيقة ، وإذا لم يدل إلا مع القرينة فهو مجاز. وهذا أمر متعلق باستعمال اللفظ في المعنى لا بوضع متقدم.
ثم يقال ثانيا : هذا التقسيم لا حقيقة له ، وليس لمن فرّق بينهما حدّ صحيح يميز به بين هذا وهذا. فعلم أن هذا التقسيم باطل ، وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول : بل يتكلم بلا علم ، فهم مبتدعة في الشرع ، مخالفون للعقل. وذلك أنهم قالوا : الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له ، احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال. وهذا يتعذّر. ثم هم يقسمون الحقيقة إلى : لغوية وعرفية ، وأكثرهم يقسمها إلى ثلاث : لغوية وشرعية وعرفية. فالحقيقة هي ما صار اللفظ فيها دالا على المعنى بالعرف لا باللغة. وذلك المعنى يكون تارة أعمّ من اللغويّ ، وتارة أخصّ ، وتارة لا يكون مباينا له ، لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها. (فالأول) مثل لفظ : الرقبة والرأس ونحوهما. كان يستعمل في العضو المخصوص ، ثم صار يستعمل في جميع البدن. (والثاني) مثل : الدابة ونحوها. كان يستعمل في كل ما دبّ ، ثم صار يستعمل ، في عرف بعض الناس ، في ذوات الأربع. وفي عرف بعض الناس ، في الفرس. وفي عرف بعضهم ، في الحمار. و (الثالث) مثل لفظ : الغائط ، والظعينة ، والراوية ، والمزادة. فإن الغائط ـ في اللغة ـ هو المكان المنخفض من الأرض. فلما كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم ، سمّوا ما يخرج من الإنسان باسم محلّه. والظعينة اسم للدابة ، ثم سموا المرأة التي تركبها باسمها ، ونظائر ذلك. والمقصود : أن هذه الحقيقة العرفية لم تصر حقيقة لجماعة تواطؤوا على نقلها ، ولكن تكلم بها بعض الناس وأراد بها ذلك المعنى العرفيّ. ثمّ شاع الاستعمال فصارت حقيقة عرفية بهذا الاستعمال. ولهذا زاد ، من زاد منهم ، في حد الحقيقة : في اللغة التي بها التخاطب ، ثم هم يعلمون ويقولون : إنه قد يغلب